الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

يوم في وادي “لعْوَيْجَه” / ذ. السيد أحمدو الطلبة

عندما تحدث البحتري عن وصف الطبيعة الدمشقية خلع حاله في دمشق على مرتادي ديوانه بجودة شعره ودقة وصفه ورقة عاطفته:

أما دمشق، فقد أبدت محاسنها

وقد وفى لك مطريها بما وعدا!

 

إذا أردت ملأت العين من بلد

مستحسن، وزمان يشبه البلدا.

 

يمسي السحاب على أجبالها فِرَقا

ويصبح النبت في صحرائها بَدَدا.

 

فلست تبصر إلا واكفا خضِلا

أو يانعا خضِرا، أو طائرا غرِدا.

 

ووصف ابن زيدون جمال الطبيعة في الزهراء وصفا بالغ الرقة:

إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا

 والجو طلق،  ومرأى الأرض قد راقا

 

وللنسيم اعتلال في أصائله ..

 كأنما رق لي، فاعتل إشفاقا

 

وأجاد أحمد شوقي ما شاء في وصفه لجمال الطبيعة في أوروبا حين سحرته مناظرها في رحلة برِّيَّة إلى الأستانة:

تلك الطبيعة، قف بنا يا ساري

حتى أريك بديع صنع الباري !

 

الأرض حولك والسماء اهتزتا

لروائع الآيات والآثار .

 

من كل ناطقة الجلال، كأنها

أم الكتاب على لسان القاري .

لكن بعيدا من صخب الحضارة وزخارفها الخداعة، وتحت ظل وارف لشجرة من شجر “البون“ مع جليسين محَبَّبَيْن، في  وادي “لعْوَيْجَه” بضواحي الركيز طاب المقيل وساغت كؤوس الشاي بين يدي مشهد جمع بين الاستمتاع بجمال الطبيعة والاستغراق في جلال التاريخ الذي يكاد الوادي يفصح عنه لنزلائه …

 

ذلك يوم لأستاذنا محمد الحافظ ولد السالك في وادي “لعْوَيْجَه” نقله في صورة شعرية محكمة السبك دقيقة الوصف راقية الأسلوب:

وقفنا بأكناف “العويجاء” ساعة

على موحش إلا من الطير مونس .

 

وقفنا وعين الغيم تذري صبابة

رذاذا، ووجه الشمس في برد سندس .

 

ولا صوت إلا هادر فوق أيكة

وهمس تعاطته ثلاثة أنفس .

 

على نهَرٍ من جانبيه يحفه

صعيد بهيج طيب غير موعس .

 

وأرض لعين المجتلي قد تبرَّجت

بما من مُلاءات الديابيج تكتسي .

 

فملنا إلى جذع من “البون” تالد

على الجانب الشرقي منها محَبَّس .

 

حففنا به، والذكريات تلفنا

وتدخلنا من جوه بيت مقدس .

 

عرضنا عليه مجلسا أن يضمه

لذاكرة منه، حوت ألف مجلس .

 

فكم من فتى مُفْتٍ تفَيَّأَ ظله

ومن دارس آوى له ومدَرِّس .

 

ومن عابد لله جل مسبح

بحمد الذي أنشا البرايا مقدِّس .

 

ومن هائم عشقا، خلا فيه عَلَّهُ

يرى في حديث النفس من مُتَنَفَّس .

 

ومن خابط ظلماء، وافاه منشدا

(أماويُّ هل لي عندكم من مُعَرَّس .)

 

وكائن تراءت حوله من مَناظر

تُجَلِّي الأسى عن كل وجه مُعَبِّس .

 

فمِن أنهُر تجري،  وأقمار أوجه

إلى نَوْر أزهار، إلى صفق أكؤس .

 

إلى بُلْبُلِيِّ الشدو، بل بابِلِيَّة

إلى ظبيات كُنَّسٍ، غيرِ خُنَّس .

 

إلى الشَّوْل في خضر المراتع رُتَّعا

إلى هدر فحل ذي شقاشقَ أشْوَس .

 

إلى بطن رحل من جمالية، إلى

سَدِيسٍ فتيلِ المرفقين مُخَيَّس .

 

إلى أن أناطت حكمها أختُ يُوشَعٍ

بما كان يَخفى من جواريَ كُنَّس .

 

ومالت إلى نحو الغروب، وعَرَّضَتْ

لنا بانصراف قبل ليل مُعَسْعِس .

 

فقمنا، وكاد الليل يلقي جِرانَه

ويَرْبِطُ بين الخافقين بحِنْدِس .

 

أبدع الشعراء في وصف الحضارات وجمالها وأسروا القلوب بما وصفوا من طبيعتها الفتانة، لكن نسخت ذلك كله رائعة “لعْوَيْجَه” :

 

حسن الحضارة مجلوب بتَطْرِيةٍ / وفي البداوة حسن غير مجلوب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق