الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

رشَحات / ذ. السيد أحمدو الطلبة

المنظر الجميل، والصوت الحسن، والأدب المختار، من الألطاف الخفية التي أودع الله في هذه الدنيا الكثيفة والعالَم المشحون …

 

قديما شَغَفَت المحاسنُ المقسومةُ بمقدار بين هذه الكائنات قلوبَ الناس وسَلبتْ عقولهم، أما العامة فأطلقوا الأعنة لألسنتهم وأقلامهم في التعبير عن ذلك، وسخَّروا مطايا الأعمار لتتبُّع ما حلا وراق لهم من ذلك، وكأنهم يعملون بنصيحة القائل:

تمتع من الدنيا فإنك فان …..

 

وأما الخاصة من عباد الله فكانت لهم رشَحات من حين لآخر، يستروحون فيها للنسائم ويستعذبون صفوَ الموارد ويعتبرون في الآيات:

عوجا بنا على ابنة الباقر ….. ذات السنا والمنظر الباهر .

لعلنا في بعض غراتها ….. ننظر صنع المتقن القادر .

 

ذكر ابن رشيق في العمدة أن امرأة من هذيل بارعةَ الجمال قدمت المدينةَ ذات سنة ومعها صبي، فكادت تذهب بعقول الناس فقال فيها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أحد فقهاء المدينة السبعة أبياتا ذكر فيها إخوانه من فقهاء المدينة شهودا له على حبها:

أحبكِ حبا لو شعرتِ ببعضه

لجُدتِ، ولم يصعب عليك شديدُ

 

أحبكِ حبا لا يحبك مثلَه

قريب، ولا في العاشقين بعيدُ

 

ويعرف وجدي قاسم ابن محمد

وعروة ما أخفي بكم وسعيدُ

 

ومن الغريب ما يُروى عن الشافعي أنه رأى امرأة حسناء، فقال:

إن النساء شياطين خلقن لنا

نعوذ بالله من شر الشياطين .

 

فردّت المرأة:

إن النساء رياحينٌ خلقن لكم

وكلكم يشتهي شم الرياحين .

 

وهذا قريب مما يحكى عن العلامة مولود أنه مر على نساء يوم عيد، فأنشد:

من الجآذرُ في زي الأعاريب …؟

 

فأجابته إحداهن:

إن كنت تسأل شكا في معارفها

فمن بلاك بتسهيد وتعذيب ؟

 

وذكر المبرد في الكامل أن أحد الأجلاء كان يمكث نهاره في المسجد النبوي يصلي، وغيرَ بعيد منه يقضي النهارَ مُغَنٍّ ليس له من العبادة إلا الغناء، وحسب الظاهر من حاليهما فإن الناسك في واد والمغنِّي في واد، حتى تخلّف المغني في بعض الأيام وخلا منه مكانُه المألوف من المسجد فبحث عنه ذلك الناسك حتى وقف عليه مأسورا ففكّ أسره، فسأله المغني عن سبب بحثه عنه وفكه لأسره فقال: رأيتك تقيم واوات معبد !

وواواتُ معبد اسم لأبيات معروفة غناها معبد ابن وهب المخزومي، واشتهرت بحسن غنائه ….

 

كما يروى أن أبا حنيفة كان له جار مبتلى بمعاقرة الصهباء، فكان كل ليلة عندما يهدأ الليل وينام السامرون ويصفو الوقت وتطيب المناجاة، يبدأ الإمام صلاته وتبدأ الكاس تفعل أفاعيلها في جاره، فيرفع عقيرته منشدا:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر !

 

حتى فقد أبو حنيفة ذلك الصوت الثمِل في بعض الليالي، فذهب يبحث عنه فوجده في قبضة العَسَس فخلَّصه منهم وأرجعه إلى منزله، وقال له: أترانا ضيّعناكَ ؟

 

ومن أريحيَّة ذوي الفضل حكاية عن الشيخ عبد الله ولد داداه التقطتُها من مذاكرات الإخوان، أنه نزل في أحد الأعوام  “يارَ” براء مفتوحة مرققة، وهو موضع قريب من نجد البشام “علب آدرس” فجاءه المصطفى ولد معاوية التندغي زائرا ووجده في المسجد فسلم عليه وقال له: هل يجوز إنشاد الشعر في مسجدكم ؟ فقال له: ما أردناه إلا لذلك .. فأنشده المصطفى قصيدة يمدحه بها، فقال له: هذه القصيدة فيها أمران “ما يفشُّو” الحسن والكذب ..

 

أمْلتْ عليّ الذاكرة وأنا أكتب هذه الحكايات قصة طريفة حصلت لي قبل ما يربو على عقدين من الزمن مع شيخ لم يكن على مشارب المشايخ الذين تحدثتُ عنهم ..

 

أوائلَ التسعينات بمحضرة النباغية ، نزل علينا ضيف معتبَر من إخوتنا المشارقة، واستقبله شيخنا _حفظه الله_ فتحدّث معه بعض الوقت، فسأل عن أحوال المحضرة وطلابها وسأل عن الشعر فيها، فذَكر له بعض الحاضرين أن المحضرة فيها شعراء من أبنائها الشباب، فطلب أن ينشده أحدهم أبياتا من بنات فكره، فطلب القومُ  أحدَ الشعراء الذين كان شعرهم حينئذ قد بلغ إناه، غير أنهم لم يكونوا حاضرين فاقتضى النظر أن يسمع الضيف أبياتا من شعري، وأنا حينئذ في بداية الطريق ولم تكتمل من عمري عشرون عاما بعدُ، فأنشدته أبياتا من قصيدة أنشأتها قبل ذلك بأيام في موسم من مواسم الأفراح، فما زال يستمع ويبدي إعجابه إلى أن سمع قولي:

فلتشربوا كأس العقار معتقا / فلقد أبيح، ولم يكن بمباح !

وهذا _طبعا_ بيت من “بوسوير الصبيان” ، فطوى الرجلُ بِشْرَه واستحال إعجابه غضبا ولبس جِلْدَ نَمِر، وأقسم بأحرج الأيمان أن لا يقيم بعد ذلك حلبَ شاة في هذا الحي الذي يُدعى فيه إلى المعاصي جهارا، فكان شيخنا يُهدّئه ويقول له: هذا الصبي ما رأى الخمر بعينيه قط، وإنما هذه خمر مجازية لا لغو فيها ولا تأثيم …

ولا أتذكر الآن هل تمَّ إقناعه بالرجوع عن قرار الرحيل أم لا … ولعل في ذي المجاز بعض شهود الواقعة المشهودة ..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق