الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

نسيب الخيام / ذ. السيد أحمدو الطلبة

لعل أرقَّ ما حفظَتْه ذاكرةُ الشعر العربي من نسيب الخيام قصيدة جرير التي تحدَّثَ فيها عن مخيّم ذي طلوح، فخلع حالَه المُؤثِّر على خلق كثير لم تكتحل عيونهم يوما بالنظر إلى ذلك المخيّم:

متى كان الخيامُ بذي طُلوح ؟ ….. سُقيتِ الغيثَ أيّتُها الخيامُ !

تعالى فوق أجرعكِ الخزامى ….. بنَوْر، واستَهَلَّ بكِ الغمامُ .

مُقامُ الحيّ مَرَّ له ثمان ….. إلى عشرين، قد بَلِيَ الثُّمامُ ….

 

ومن الشعراء الذين إذا ذكروا الخيام سال شعرهم رقّةً وتفجّرت منه الأنهار، الشريف الرضي الذي له على الطريق بين البصرة ومكة أيامٌ بخيام “الأبْرَقَيْن” لا يفتأ يذكرها ويسائل عن عهودها ومعاهدها:

أين الخيام التي كنا نلوذ بها / بالأبرقين، وأين الحيُّ مذ بانا ؟

أنسيتَني الناس مذ أذكرتَني بهمُ / يا مُهديا ليَ تَذكارا ونسيانا !

 

وفي مستهَلِّ هذه القطعة يذكر الشريف روض “ذي الأثل” الذي وجد  من تنسُّم أرواحه ريّا لمياء :

ياروض ذي الأَثْل من شرقيِّ كاظمة / قد عاود القلبُ مِن ذكراكَ أديانا .

أشمّ منك نسيما لستُ أعرفه / أظن لمياء جرّت فيكَ أردانا .

 

ومن رقيق شعر الخيام أبيات حفظتُها أيامَ التعليم الأساسي عن ألسنة المعلمين، ووقفتُ عليها زمانا بعد ذلك في مراجع الأدب برواية مخالفة وتلقّيتُها بذوق آخر:

وما وجدُ أعرابية قذفَتْ بها

صروفُ النوى مِن حيث لم تك ظَنّتِ .

                               

تمنَّتْ أحاليب الرِّعاء، وخيمةً

بنجد، فلم يُقدَر لها ماتمَنَّتِ .

 

إذا ذَكَرَتْ ماء العضاه وطيبَه

وبردَ الحصى مِن بطن خَبْت أرَنَّتِ .

 

بأعظمَ مني لوعةً، غيرَ أنني

أُطامنُ أحشائي على ما أجَنَّتِ .

ولا شك أن الخيام تبقى لها آثار بالغة في قلوب الشعراء الذين ألفوها وجمَعَتهم لياليها البيضاء بأحبتهم ..

ومن رقيق نسيبها في استهلال البردة النبوية المباركة:

لولا الهوى لم تُرِق دمعا على طلل

ولا أرِقتَ لذكر البان والعَلَمِ .

 

ولا أعارتكَ ثوبَيْ عبرة وضنا

ذكرى الخيام وذكرى ساكني الخِيَم ِ .

 

ومن تلك الرقائق العذبة قول أحدهم متسائلا، وقد أشفق من الترحال الدائب للخيَم وأهلها وما يترتب على ذلك مِن فُرقةٍ بين الأحباب وتقطيع لحبال الوصلة بينهم:

حيِّ نجدا ومن بأكناف نجد / والخيام التي بها طال عهدي .

ليت شعري هل الخيام كما كن / ن على العهد، أم تغيّرْن بعدي ؟

 

وقد كان تقويض الخيام موقفا شديدا على المحبين وأصحاب حفظ العهود:

قفي أخبرْكِ ما صنَع الغرام / عشية قُوِّضَتْ تلك الخيام ….

 

وفي ترسُّم آثار الخيام بعد رحيل متخيِّميها تعِلّة المحزونين وراحة المهمومين:

هل انتم عائجون بنا، لعنَّا / نرى العرَصات أو أثرَ الخيامِ ؟

 

ويحضرني في نسيب الخيام من شعر الشناقطة قول محمد بن أحمد يوره:

أقام عليه ذا البرقُ القِياما ….. وذكَّرَه المُخَيَّمَ والخياما .

ومن ذكَر الأحبة وهو شيخ ….. فلستَ تظنّه إلا غلاما

 

ولعل من أجود ما ورد في شعرهم من ذلك قول سيدي عبد الله ولد محم العلوي في قبيلة آل الفاضل “أولاد سيدي الفاللي”:

 

تخافقت البروق على الغميم

شفاؤك يا مُقيلةُ أن تشيمي !

 

مخيّمَ جيرة شمٍّ كرام

طهارى أوجه بيض وخيم .

 

وقد بلغ قمة الإجادة في مدحه لسكّان ذلك المخيم الذي شَبّه رجالَه بالقساور ونساءَه بالآرام:

خيامُ الناس، لكن كل سجْف / يُزاوِج بين قسورة وريم .

 

في ليلة من ليالي هذا الأسبوع وتحت خيمة ملأ النورُ الصناعيُّ أرجاءَها وطغى على مجلسها الحديث عن عدنان إبراهيم وشُبهه المسمومة، خطرت بي بعض أدبيّات الخيام، وقرّرتُ أن أجعل منها موضوعا للصباحيات، وخرجتُ تحت وطأة النعاس من تلك الخِيَم وأنا أردّد:

أما الخيامُ، فإنها كخيامهم ….. وأرى نساءَ الحيِّ غيرَ نسائها !

لا والذي حجّتْ قريشٌ بيتَه ….. مستقبلين الركنَ مِن بطحائها .

ما أبصرَتْ عينِي خيامَ قبيلة ….. إلا بكيتُ أحبتي بفِنائها ..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق