الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

من أدبيات المجالس والجلساء / أ. السيد أحمدو الطلبة

ما من امرئ ذي إحساس مرهف إلا ويحتاج للأنيس المصافي والجليس الذي يحمل عنه بعض أعباء الحياة ويخفف عنه بعض أثقالها بحسن الاستماع وحلاوة المحادثة، ذلك لأن الحياة كثيفة بهمومها التي تتدفق تدفق السيل ومتاعبها التي تحاصر الناس وتقطع عليهم الطرق ..

ومن هنا لم يزل الألبّاء في كل زمن يتطلّبون الظرفاء وينقّبون عنهم تحت غطاء دهماء الناس وعامتها، يطلبون فيهم ذلك المعنى ويلتمسون فيهم تلك الخاصة ..

 

كانت قديما مجالس الخمر آصرة من آكد الأواصر وأوثقها رباطا، ولها حقوقها وآدابها:

 

وللكأس والصهباء حق معظم

ومِن حقها أن لا تُضاع حقوقها .

 

ومن عجيب وفاء الخمريّين لرفاقهم ما ذكر أبو تمام في حماسته عن رجل من بني أسد أنه خرج رفقة ابن عم له إلى أصبهان فآخيا دهقانا في بلدة تسمى راوند، فمات أحد الأسديين وبقي الآخر هو والدهقان ينادمان قبره فيشرب كل منهما كأسا ويصبان كأسا على قبر أخيهما، ثم إن الدهقان أيضا مات فبقي الأسدي ينادم قبريهما ويترنم بأبيات يتوجع فيها لفراقهما:

 

خليلَيّ هبّا طالما قد رقدتما

أجِدّكما لا تقضيان كراكما .

 

ألم تعلما مالي براوندَ كلها

ولا بخزاق من حبيب سواكما .

 

أقيم على قبريكما، لست بارحا

طوال الليالي أو يجيب صداكما .

 

وأبكيكما حتى الممات، وما الذي

يرد على ذي عولة أن بكاكما ؟

 

فلو جُعلَت نفس لنفس وقاية

لجدتُ بنفسي أن تكون فداكما .

 

أصب على قبريكما من مدامة

فإلا تنالاها ترَوّ ثراكما .

 

ومن جيد هذا الباب أبيات ذكرها المبرد في الكامل لأحد بني أسد يمدح ندماء له نصارى كان ياوي إليهم ويأنس بهم، فقال بعد ما فرقت الليالي بينه وبينهم يحن إليهم ويشتاق لمجالسهم:

 

كأن لم يكن يوم بزورة صالح

وبالقصر ظل دائم وصديق .

 

ولم أرد البطحاء يمزج ماءها

شراب من البرّوقتين عتيق .

 

معي كل فضفاض القميص، كأنه

إذا ما سرَت فيه المدام فنيق .

 

بنو السمط والحدّاء كل سميذع

له في العروق الصالحات عروق .

 

وإني وإن كانوا نصارى أحبهم

ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق .

 

ومن مدح الندماء قول السري الرفاء:

 

وفتية زهَر الآداب بينهمُ

أبهى وأنضر من زهر الرياحين .

 

راحوا إلى الراح مشي الرّخ، وانصرفوا

والراح يمشي بهم مشي البراذين .

 

وفي الأدب الشنقيطي باب يقرب من هذا الباب وهو باب (الطّرَق)، وهي مجالس الشاي التي عادة ما تلتئم من أدباء وظرفاء يتبادلون النوادر ويتطارحون الأحاديث:

 

مجلس الشاه شرطه أن يكونا

أدباءً جلوسه أجمعينا .

 

إن يكن ذاك فهو ماء قراح

كان أشهى من قرقف الأندرينا ..الخ

 

ونجد الإشارة لهذا النوع من المجالس في شعر الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديّ في نونيته البديعة إذ يقول:

 

وكم سامرت سُمّارا فُتُوّا

إلى الأصل انتموا من محتدين .

 

أذاكر جمعهم ويذاكروني

بكل تخالف في مذهبين .

 

كخلف الليث والنعمان طورا

وخلف الأشعري مع الجُويني …الخ

 

وفي قصيدة بعثها العلامة محمد عالي ولد فتى من غربته في إفريقيا نجده يحن إلى تلك الطرَق ويتلهف لبعده منها:

 

من أرض أكْرَ إلى أكماس قد طمحت

بي المقادير مجتازا إلى لوم .

 

في أمة كدوي النحل قولهمُ

ما كان قولهمُ عندي بمفهوم .

 

لا يفهمون عبارات أعبرها

فما أضيّع منثوري ومنظومي .

 

فلا أنيس بها إلا إذا طرقت

سلمى، أو ان طرقتني أم كلثوم .

 

إن كنت فيهم غريب الشكل منفردا

كبيت حسان في ديوان سحنوم .

 

فرب فتيان صدق إن أشرتُ لهم

شيئا أحاطوا بمنطوقي ومفهومي .

 

وللعلامة أحمدُّ ولد دهاه قصيدة أولها:

 

إن أشرب الكأس في ناء من الطرق

لا شكل يلفى من الطرّاق والطرَق .

 

فرب فتيان صدق ما أنادمهم

إلا ليحسن من أخلاقهم خُلُقي .

 

وأجتني ثمرات من فكاهتهم

من كل عذق من اصل في العلا عرق …الخ

 

وتحضرني أدبيات محلية ظريفة لشعراء حاضرين معنا في ذي المجاز غير أن نشرها قد يُحرج بعض الإخوان ممن يعِزّ علينا إحراجهم، مثلا:

 

حياة صاحب هذا البيت أطوار

طورا مقل وطورا فيه إكثار …الخ

 

وهو مستهَلّ أبيات اشتركت في نسجها جماعة من الشعراء يتحدثون فيها عن مضيفهم الذي لم يركن للراحة منذ دخلوا عليه سعيا لتوفير كل ما يحتاجون إليه، وكان ذلك منهم له جزاء سنِمّار سامحهم الله ..

 

وهذا ما تيسر لي أن أكتبه والمجال أفسح بكثير، غير أني لم أحدد الموضوع إلا وقد كاد صبح الخميس ينشر راياته مؤذنا بفوات الأوان، والذهن ظالع والفكر كال مع ذلك، ولكن لعله يكون مدخلا لحديث شائق ومجلس رائق ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق