إصدارات

كتاب المسائل العشر، محاولة للفهم والإفهام حول شبهاب في كلام بعض رجال التصوف / تأليف الشيخ الخليل النحوي

صدر حديثا عن دار المذهب ودار جسور عبد العزيز للطباعة والنشر كتاب المسائل العشر، محاولة للفهم والإفهام حول شبهاب في كلام بعض رجال التصوف ، من تأليف الشيخ الخليل النحوي.

فيما يلي مقال سابق تحت عنوان قراءة في المسائل العشر للشيخ الخليل النحوي نقلا من موقع المحيط  :

قراءة في المسائل العشر للشيخ الخليل النحوي
الخميس, 16 فبراير 2017 22:57
ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏‏‏الهادي محمد المختار النحوي

قصة الحوار
طرح بعض المشايخ الأجلاء في مجموعة المحضرة الشنقيطية جملة من الأسئلة والمسائل حول رؤية النبي صلى اللـه عليه وسلم يقظة وحول التصوف والطريقة التيجانية تحديدا وأحلت تلك الأسئلة والاستفسارات والمسائل الى الشيخ الخليل النحوي حفظه وبعد تردد سجل الشيخ مجموعة من المقاطع الصوتية اشتملت على كثير من العلوم النقلية والعقلية أصلت لتلك القضايا المطروحة ..
وأعيد طرح بعض تلك المسائل في ديوان الشناقطة وخاصة المقارنة بين القراءن الكريم التي يزعم بعض المخالفين ان التيجانيين “يفضلونها” على القرءان الكريم ، وتلك قصة أخرى يوضحها الشيخ هنا في توطئة المسائل العشر.
توطئة
اطلعت على تعليقات لأخ عزيز أديب أريب، محرر محقق، أتهم بها وأنجد، استشهادا واستدلالا، تعقبا لما ورد في مقاطع صوتية نشرت لي دون مبادرة مني ولا علم مسبق في مجموعة ديوان الشناقطة على إحدى شبكات التواصل الاجتماعي. وقد وجدت في تعليقات أخي العزيز (وقد أسميها فيما بعد “الإيرادات” اختصارا) من النظر الحصيف ومن العلم الغزير ومن الأدب في الحجاج ما هو له أهل، والشيء من مأتاه لا يستغرب. ولئن كان لي أن أزاحمه في شيء مما اتسم به ورشح به إناؤه، ففي بعض ما يحرك سواكن حلمه ورزانته من الغيرة للدين، والحرص على الذب عن حماه، فكلنا – بحمد اللـه – في ذلك الهم شرق. ولقد كان من الطبيعي أن تستثير نظرات الشيخ الثاقبة وتحريراته وتقريراته الشاهدة بعلمه وفكره نظرا، ما يحركه إلا ما يحرك مثيره من ابتغاء الحقيقة. وكنت في ذلك على تردد كبير، فإني أحمل في المقام الأول، شأن آخرين طبعا، همّ الاجتماع على كلمة سواء والاعتصام بالائتلاف من الاختلاف، وأحسب أن لنا فيما يحيط بأمتنا من قارعات وعاديات ما هو حقيق باستنفار جميع طاقاتنا في الدفاع عن الثوابت الجامعة وتحصينها. لذلك، لم أكن أرغب البتة في دخول هذا النوع من السجالات. وإذ دخلته في مجموعة خاصة، وبطلب ملحاح، فقد فعلت بنية السعي للتقريب بين فئات المسلمين والتخفيف من دواعي الفرقة الناتجة أحيانا عن سوء ظن بعضهم ببعض، أو عن سوء فهم، أو نقص اطلاع، أو عوز في الاستدلال، فضلا عما قد يكون سببا لذلك من أخطاء يرتكبها أفراد من هذا الطرف أو ذاك، فيدفع “ضريبتها” جمهور واسع من المسلمين. وقد رغبت أن تبقى المراجعات في ذلك الشأن محصورة في المجموعة التي استدرجتها، دون غيرها. وحين نشر بعض تلك الصوتيات في ديوان الشناقطة – وما علمت إلا متأخرا لانشغالي عن متابعة الديوان فترة طويلة نسبيا – كتبت في الديوان مناصرا دعوة الراغبين في عدم التشويش على رواده (أو بعضهم) بطرق موضوعات شائكة يصعب الاتفاق حولها، وكنت أظن أن إدارة الديوان جنحت إلى سد باب ذلك السجال إلى أن اطلعت على المراجعة المستفيضة التي تعقب بها الأخ الكريم بعض ما ورد في الصوتيات المذكورة. ومع ذلك بقيت على ما كنت أزمعت من الإحجام عن خوض هذا السجال على صفحات الديوان، ووجدت في شواغل جمة وفي عوارض من اعتلال الصحة ومن السفر ما يشفع لي في ذلك الإحجام، بل وجدت ما هو أهم من ذلك فيما أعلمه من أن علماء أجلاء من أهل التصوف ومن أبناء الطريقة التجانية (التي وجه إليها معظم الاتهام) حاضرون في الديوان وبعضهم في عربة القيادة، وهم أهل لمراجعة الإيرادات عند الاقتضاء. وهكذا لزمت الصمت وقتا غير يسير انصرفت فيه إلى شواغل أخرى، إلى أن اتصل بي بعض متابعي الديوان، وطلب مني الرد، ونبهني إلى أن هناك من استشكل الصمت إزاء تلك “الإيرادات” واعتبره تسليما بما جاء فيها، وذلك أمر وارد، إذ كثيرا ما يعتبر السكوت قبولا أو انقطاعا، ووجدت أن أيا من الإخوة الأعلام قادة الديوان وأركانه لم يتصد بعد لمراجعة الإيرادات، بل إن عاصفة عصفت بالديوان فانفرط عقده، وإن جزئيا، بمغادرة عدد كبير من هؤلاء. ثم وجدت بعد إعادة النظر في تلك التعليقات أن فيها ما يقتضي التسليم فلِمَ لا نسلم به، وفيها ما يقتضي الرد، فلعل من الخير أن نبحث فيه، وفيها ما قد يوحي إلى القارئ بما لا يقصده الكاتب من اتهامي أو اتهام من تحدثت لتأويل كلامهم أو تقريبه بقول ما لا ينبغي أن يقال، فلم لا نبرأ منه؛ كما وجدت في الإيرادات المذكورة تنبيها وجيها إلى ما ورد من النهي عن كتمان العلم، فاستخرت اللـه وتجدد لي من كل ذلك داع للكتابة، باعتباري طالب علم باحثا عن الحق، واستدراجا لأنظار من هم أجل علما وأدق فهما. وقد نظرت في الإيرادات فصنفتها في عشرة مسائل، معظمها مركب من حزمة إيرادات مترابطة، نتناولها فيما يلي مستعينين باللـه تعالى مسترشدين، موطئين لها بنقاط ممهدة:
وقد وضع الشيخ 10 ممهدات انتخبت منها 4 من باب الاختصار
1. من شرطي في هذه الورقات، كما في الصوتيات التي أثارت الردود وفي ردود أخرى سابقة استدعاها بعض الإخوة، ألا أعزو إلى كتب مشايخ الصوفية وأعلام التصوف المصنَّفين ما استطعت إلى ذلك سبيلا، رغم أن أغزر مادة توجد في المسائل محل النزاع ويمكن أن يستعان بها في المنافحة عنهم هي ما كتبوه هم أنفسهم، لكنني آثرت ألا أستعين بهم في تحرير المسائل محل النزاع، بل أحجمت حتى عن الرجوع إلى كتبهم لئلا أكون تحت تأثير ما فيها وأنا أحاول تحرير المسائل محل النزاع. وإن جلبت – على ندرة – كلام بعضهم فيكون ذلك أساسا فيما لا نزاع فيه مما يسلم به أو يفترض أن يسلم به الطرف المنازع ليكون ذلك دفعا لشبهة احتمال إرادتهم غيره في أي كلام ملتبس آخر منقول عنهم؛ ذلك أننا نعلم أن من هؤلاء المشايخ من جُعلوا أو جُعل أتباعهم خصما، ورفعت عليهم دعوى، فاقتضى الإنصاف ألا نتخذهم حكما في أمر هم فيه متهمون، إلا في حدود تقرير مقولاتهم وتحريرها بما هو مسلم لدى متهميهم والمدعين عليهم.. أما في تحرير المسائل محل النزاع فإني أقصر البحث قصرا ما استطعت إلى ذلك سبيلا في تقريرات وتوجيهات العلماء الذين يرجح ألا يكونوا محل شبهة عند طرف الاتهام، عسى أن يكون ذلك أدعى لقبول القول. وعليه، فإن هذه الورقات لن تحلى بأسماء علماء أعلام كثر ألفوا أو تكلموا في المسائل محل النزاع أو فيما هو قريب منها، لكن من موقع الصوفي، فلن نعزو إلى الغزالي (إلا من خلال عزو غير متهم إليه) ولا إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني ولا إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي ولا إلى شيخ العلمين سيدي أحمد زروق، ولا إلى السيوطي ولا إلى الشعراني ولا إلى عبد الكريم الجيلي، ولا إلى السهروردي ولا إلى الشيخ عثمان دان فوديو وغيره من أركان الأسرة الفودية، ولا إلى جم غفير غير هؤلاء، من علماء التجانية وسائر الطرق الصوفية الذين وضعوا مئات المؤلفات في مناقشة هذه المسائل ونحوها، فإننا نعلم أن شهادة هؤلاء – رحمهم اللـه – مجروحة أصلا عند منتقديهم.
2. رغم أننا نحاول في هذه الورقات أن نؤصل ونخرج وندلل بسوق النصوص وآثار السلف ونقول العلماء، فإن لنا عن الدخول في كثير من التفاصيل التي تتضمنها هذه الورقات غنى بالاحتكام إلى منهج لو احتكمنا إليه لاختصرنا به الطريق إلى فقه خلاف لا غلو فيه من أي طرف. وقد بسطنا ذلك المنهج في مقدمات عرضناها في مستهل مراجعات مع بعض الإخوة، وبحسبنا هنا أن نعود منها إلى الحاجة إلى وزن ما ينقل من كلام الصالحين بموازين قسط من حمله على وجه خير عند الإمكان، ورد ما يشكل من كلامهم إلى ما لا يشكل إن توفر، ومعارضة خيره بغيره، وعدم الاقتصار على ما يشبه أن يكون تتبعا للعورات والثغرات فما أكثر ما تُجتلب من كتاب مقولات ملتبسة وتبنى عليها أحكام بالتبديع وأحيانا بالإخراج من الملة، وفي الكتاب ذاته ما لو التفت إليه المعترض لوجد ما يدفع الشبهة التي بنيت عليها تلك الأحكام. وما أكثر ما يقف واقف عند كلام يتخذه حجة للنيل من الخصم، ويتغاضى عن جواهر ونفائس في الكلام ذاته أو في طرف منه تشهد للخصم وتبرئ ساحته وتثبت له من الفضل ما لا يلتفت إليه، وكأن الهم هو تتبع العورات، وتأكيد التهمة، وسد أبواب الدفاع عن المتهم. ألا يخشى أن يكون في بعض ذلك بعض التعرض للوعيد الوارد في قول النبي ﷺ في حديث صححه الألباني “يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الأيمان قلبه لا تؤذوا المؤمنين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع اللـه عورته ومن يتبع اللـه عورته يفضحه ولو في جوف بيته”؟ ألا يخشى من لا يرى إلا “الجانب الفارغ من الكأس” – إن كان بالفعل فارغا – أن يصدق فيه المثل الذي ورد أن النبي ﷺ ضربه حين قال: “مثل الذي يسمع الحكمة و لا يحدث عن صاحبه إلا بشر ما سمع منه مثل رجل أتى راعيا فقال: يا راعي أجزرني شاة فقال: اذهب فخذ خيرها فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم”. ولئن ضعف الألباني وغيره هذا الحديث بسبب أحد رواته، فلقد حسن إسناده المحدث أحمد شاكر، وله شواهد من غيره لا يرقى إليها الطعن، كما لا يخفى.
3 – من الطبيعي أن نحذر من اتخاذ الدعوة إلى المنهج المشار إليه عاليه ذريعة لإهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والميوعة في الدين والتهرب من تحرير المسائل العلمية فهذه مهمات قد ترقى إلى مستوى ضرورات الدين، فلا ينبغي التفريط فيها، ولكن {وكان بين ذلك قواما}؛ ننكر ما ينكره الشرع، ونحمل على وجه خير ما يمكن حمله عليه، ونذكر للمخالف محاسنه إن نحن ذكرنا له ما سواها، ونحرر المسائل العلمية ونتوخى في ذلك كله الحق وابتغاء رضوان اللـه ورعاية حقه في خلقه
4- قد يكون من المهم أن تفضي بنا المراجعات إلى موقف مشترك؛ أن تكشف لنا حقيقة كانت غائبة، أو تجلي صورة كانت غائمة، أو تدفع شبهة كانت قائمة، أو تصحح خطأ في التصور أو خطأ في التصديق – على حد قول المناطقة –؛ أن تعيننا على استكشاف المزيد من المشترك وتوسيع مساحته؛ لكن ليس شرطا أن يقع ذلك، بل لو أن كل طرف أدرك أن للطرف الآخر أدلته وعَذَرَه في موقفه، واعتبر المسائل محل النظر أو جلها أمورا خلافية، وآمن بأن المختلف فيه لا ينبغي إنكاره، وأن اختلاف الرأي في المسائل العلمية، كما في كثير سواها، لا يفسد للود قضية، لكان في ذلك من الإنصاف ما يرتفع به الخلاف أو يكون الاختلاف به سعة على حد قول طلحة بن مصرف (من رجال الحلية)، فقد كان رحمه اللـه إذا ذكر عنده الاختلاف قال لا تقولوا الاختلاف ولكن قولوا السعة.
عناوين المسائل
المسألة الأولى حول العلاقة بين الكرامة والمعجزة
المسألة الثانية حول الإلهام
المسألة الثالثة حول الرؤيا
المسألة الرابعة حول الرؤية
المسألة الخامسة حول الصلاة الإبراهيمية
المسألة السادسة حول المفاضلة بين قراءة القرآن والذكر والصلاة على النبي ﷺ
المسألة السابعة حول العلم بأجور الأعمال
المسألة الثامنة حول سؤال “من لنا بأن فلانا ولي”
المسألة التاسعة حول صلاة الفاتح
المسألة العاشرة حول “محاذير” ما ذُكِرَ عن فضل صلاة الفاتح
تتواصل القراءة بإذن اللـه في حلقات مقبلة ..
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

 

المسألة الأولى حول العلاقة بين الكرامة والمعجزة
رد بعض إخوتنا قاعدة “ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي” وجاء في الإيرادات أن الإسفراييني قَلَبَهَا. ونحن نسلم بأن هذه القاعدة ليست على إطلاقها، فقد قيدوها – وذكرنا ذلك من قبل، وكنا به عالمين – بألا تكون المعجزة مما أثبت النص اختصاص النبي ﷺ به، كما في قوله تعالى عن القرآن {لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}، وقال القشيري إن الكرامة لا تنتهي إلى وجود ولد من غير أب وقلب جماد بهيمة، وفرق ابن تيمية بين المعجزات فجعل منها آيات كبرى تختص بالأنبياء مثل القرآن وانشقاق القمر وقلب العصا حية وخلق الطائر من الطين، وآيات صغارا تكون للأولياء، وفرق باعتبار آخر هو الفرق في القدر لا في الجنس بين المعجزة والكرامة، فمن الأولياء كما يقول من جعلت له النار بردا وسلاما كأبي مسلم الخولاني لكن ما حصل له من ذلك دون ما حصل لإبراهيم عليه السلام. أما قلب أبي إسحاق الاسفرايني للقاعدة، فمن المعلوم أنه شذ بذلك القول – إن صحت نسبته إليه – عما عليه جمهور علماء المسلمين، وقد نقل الذهبي في سير أعلام النبلاء قول القشيري عنه أنه كان ينكر كرامات الاولياء ولا يجوزها، قال: “وهذه زلة كبيرة”، بينما اعتذر عنه ابن خلدون في المقدمة، بأن النقل عنه في ذلك ليس صريحا، ودافع عنه السبكي في الطبقات، بعد أن شدد النكير على منكري الكرامات فقال: ” الكرامات حق وَقَول أَبى تُرَاب “من لَا يُؤمن بهَا فقد كفر” بَالغ فى الْحَط من منكريها وَقد تؤول لَفْظَة الْكفْر فى كَلَامه وَتحمل على أَنه لم يعن الْكفْر الْمخْرج من الْملَّة وَلكنه كفر دون كفر” ثم أردف: “وإنى لأعجب أَشد الْعجب من منكرها وأخشى عَلَيْهِ مقت الله ويزداد تعجبى عِنْد نِسْبَة إنكارها إِلَى الْأُسْتَاذ أَبى إِسْحَاق الإسفراينى وَهُوَ من أساطين أهل السّنة وَالْجَمَاعَة على أَن نِسْبَة إنكارها إِلَيْهِ على الْإِطْلَاق كذب عَلَيْهِ”. وقد قال السبكي بعد كلام “وسبيلنا (…) أن نستقصى شبه المنكرين للكرامات ونستأصل شأفتهم بتقرير الرَّد عَلَيْهِم ثمَّ نذْكر الْبَرَاهِين الدَّالَّة على الْإِثْبَات”.
نعم، من علماء السنة من لم يقولوا بقاعدة “ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي”، لكنهم أعملوا معناها إذ أهملوا مبناها. قال ابن تيمية في العقيدة الواسطية: “من أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات. والمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة”. وقال ابن القيم في المدارج: “كرامات الأولياء لا تعارض معجزات الأنبياء حتى يطلب الفرقان بينهما لأنها من أدلتهم وشواهد صدقهم”. قلت: وهذا من بليغ القول في الاحتجاج لكرامات الأولياء، فلا أبلغ في التصديق بها وتجويزها من إلحاقها بمعجزات الأنبياء وجعلها جزءا منها، وهو أمر قرره ابن تيمية من قبل بأسلوب آخر حيث قال في النبوات: “قد يكون إحياء الموتى على يد اتباع الأنبياء؛ كما قد وقع لطائفة من هذه الأمة، ومن اتباع عيسى”. وقد ساق تلميذه ابن كثير، في البداية والنهاية، جملة من قصص إحياء الموتى في أمة محمد ﷺ. وما ذهب إليه ابن تيمية وابن القيم في إثبات الكرامات بجعلها شواهد صدق للنبي المتبوع ليس أوهن في إثبات الكرامة مما ذهب إليه الجويني وغيره من القول بأن “ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي”، بالشروط المقررة عندهم، وإن ألغى بعض العلماء تلك الشروط. قال البوصيري فيما يشبه قول ابن تيمية وابن القيم باندراج كرامات الأولياء في معجزات الأنبياء:
فانقضت آي الأنبياء وآيا تك في الناس ما لهن انقضاء
والكرامات منهم معجزات حازها من نوالك الأولياء
وقد شهدت السنة لكرامات الأولياء بكثير من القصص منها قصة الثلاثة الذين أطبقت عليهم صخرة وهم في غار في جبل وقصة الغلام والراهب وقصة الكفل وقصة جريج الراهب وقصة الأبرص والأقرع والأعمى، وغير ذلك كثير، وكرامات الصحابة كثيرة أيضا، ومنها مما وقع بعد النبي ﷺ قصة عمر  وسارية وقصة عمر مع النيل. ولهذه الكرامات أصل في القرآن الكريم فمما جاء فيه منها قصة الخضر مع موسى وقصة الفتية أصحاب الكهف، وقصة آصف بن برخيا (الذي عنده علم من الكتاب) فإنها كرامة له وإن كانت معجزة لسليمان عليه السلام وقصة السيدة مريم البتول ففيها كرامات لها وإن كانت أيضا معجزات لعيسى عليها السلام، وكل هؤلاء غير أنبياء، وأثبت القرآن للقمان كرامة عظيمة، وورد عن ابن عمر  وابن عباس  أن النبي ﷺ قال إنه ليس نبيا، أما كرامته فهي أنه أوتي الحكمة التي تقتضي الإصابة في الاعتقاد والفهم والقول فدل ذلك أيضا على أن غير الأنبياء قد يعطونها. ولا نحتاج للإطالة في ذلك فالشاهد فيه أن هؤلاء العباد الصالحين الذين لم تثبت نبوتهم أعطوا كرامات من جنس معجزات الأنبياء، بل إن منهم من غبطه الأنبياء على كراماته، كما وقع لزكريا عليه السلام حين قال لمريم {أنى لك هذا}، وكما وقع لموسى عليه السلام حين قال لعبد اللـه الخضر {هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا}، فدل كل ذلك بذاته على إمكان أن يعطى رجال صالحون من أمة سيد الأنبياء ﷺ كرامات من جنس معجزاته ومعجزات إخوانه من الأنبياء والمرسلين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
ملاحظة :هذه المسالة نشرتها كاملة دون اختصار لأنها ليست طويلة نسبيا.

المسألة الثانية حول الإلهام
يرد بعض إخوتنا ما جاء عن بعض الصالحين بشأن أجور بعض الأعمال (وسنعود إلى هذه المسألة) بالطعنن في الاستدلال أو الاستئناس بالإلهام، من عدة أوجه منها الخوف من أن يكون في الاستناد إلى الإلهام مساواة للولي بالنبي، وما يظن من ندرة وقوع الإلهام للصحابة وعدم عملهم به، وما يعتقد من أن العمل بالإلهام – إن عُمل به – إنما يكون في الترجيح بين المحتملات، من قبيل استفتاء القلب، وفي خاصة النفس، كل ذلك مع التذكير بأن “جماهير العلماء على أنه [الإلهام] ليس بحجة في الأحكام الشرعية ومتعلقاتها”، طبقا لقول سيدي عبد الله في المراقي:

وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء
“وذلك لأن غير المعصوم لا ثقة بخواطره”. وسنجمع شتات هذه الإيرادات، للنظر فيها، في ثلاث مسائل فرعية هي حجية الإلهام ومشروعية العمل به، ونطاق العمل به، وخطر التسوية فيه بين الأولياء والأنبياء.
الفرع الأول: حجية الإلهام ومشروعية العمل به:
جاء في الإيرادات أن جماهير العلماء يرون أن الإلهام ليس بحجة في الأحكام الشرعية ومتعلقاتها، وهذا قول لا حرج في التسليم به، للاستغناء بالنص والإجماع والقياس في شأن الأحكام الشرعية، وفي متعلقاتها خصوصا إذا قصدنا منها الأحكام الوضعية باعتبارها أصلا جزءا من الأحكام الشرعية. فتلك أبواب لا نعتقد أن الصوفية المعنيين يجدون حرجا في نفي حجية الإلهام فيها،
ومع ذلك فإن الطعن في حجية الإلهام ومشروعية العمل به يبقى محل نظر من زاويتين:
الزاوية الأولى هي أن الحديث عن مقادير الأجور التي رُدّ الإلهام بشأنها ليس، كما سنرى لاحقا، حديثا عن أحكام شرعية، لأن الثواب الإلهي ليس خطابا تكليفيا للعباد، وإنما الخطاب التكليفي هو العمل الذي يرتب عليه اللـه فضلا منه ذلك الثواب، وفرق بين أن تقول في عمل لم يشرعه اللـه أو يشرع جنسه هذا عمل صالح يثاب عليه، دون أن تستند إلى نص، وبين أن تقول في عمل شهد الشرع بأنه أو بأن جنسه محل للثواب إن اللـه يضاعف ثوابه كذا مرة، أو يعطي عليه كذا وكذا
الزاوية الثانية هي أننا حتى وإن اعتبرنا الثواب حكما شرعيا وسلمنا بما يقول به الجمهور – كما ذُكر – من عدم حجية الإلهام في الأحكام الشرعية، أو اعتبرنا مقدار الثواب غيبا واعتقدنا أن الإلهام ليس مما ينكشف به الغيب (وهذا محل نظر كما لا يخفى)، فإن من حسن الاحتياط ألا ننكر على من عمل بإلهام أو بغيره من المبشرات، لأن من العلماء من اعتبر الإلهام دليلا، وقد صرح سيدي عبد اللـه في شرحه للبيت آنف الذكر بأن الإلهام من الأدلة المختلف فيها.
.” وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى “وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلْهَامِ لَيْسَ طَرِيقًا إلَى الْحَقَائِقِ مُطْلَقًا أَخْطَؤُوا فَإِذَا اجْتَهَدَ الْعَبْدُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ كَانَ تَرْجِيحُهُ لِمَا رَجَّحَ أَقْوَى مِنْ أَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ ضَعِيفَةٍ فَإِلْهَامُ مِثْلِ هَذَا دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ وَالْمَوْهُومَةِ وَالظَّوَاهِرِ والاستصحابات الْكَثِيرَةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْخِلَافِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ” إلى أن قال “وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ {: الصَّلَاةُ نُورٌ؛ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ؛ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ} وَمَنْ مَعَهُ نُورٌ وَبُرْهَانٌ وَضِيَاءٌ كَيْفَ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ مِنْ فَحْوَى كَلَامِ أَصْحَابِهَا؟ وَلَا سِيَّمَا الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ مَعْرِفَةً تَامَّةً؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ الْعَمَلَ بِهَا؛ فتتساعد فِي حَقِّهِ” ثم قال “وَمَنْ كَانَ تَوْفِيقُ اللَّهِ لَهُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَا بَصِيرَةٍ نَافِذَةٍ وَنَفْسٍ فَعَّالَةٍ؟
هذا وإن للعلماء القائلين بالعمل بالإلهام سلفا من صالحي الأمة وأعلامها في عهد الرسول ﷺ وصحابته وأهل القرون المزكاة، فلا ينبغي أن نشنع على من كان متبعا لبعض أولئك غير مبتدع
وقد لمح ابن تيمية العلاقة بين الإلهام والمصلحة المرسلة والاستحسان، فقال في الفتاوى متحدثا عن المصالح المرسلة: “وَهُوَ أَنْ يَرَى الْمُجْتَهِدُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ يَجْلِبُ مَنْفَعَةً رَاجِحَةً؛ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَنْفِيه؛ فَهَذِهِ الطَّرِيقُ فِيهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ فَالْفُقَهَاءُ يُسَمُّونَهَا ” الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ ” وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهَا الرَّأْيَ وَبَعْضُهُمْ يُقَرِّبُ إلَيْهَا الِاسْتِحْسَانَ وَقَرِيبٌ مِنْهَا ذَوْقُ الصُّوفِيَّةِ وَوَجْدُهُمْ وَإِلْهَامَاتُهُمْ؛ فَإِنَّ حَاصِلَهَا أَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَصْلَحَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَيَذُوقُونَ طَعْمَ ثَمَرَتِهِ وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَخُصُّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ بِحِفْظِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَفِي دَفْعِ الْمَضَارِّ”. وهذا نص من ابن تيمية في أن ما يجده الصوفية من أذواق وإلهامات يدخل في باب المصالح المرسلة والاستحسان، وهي من الأدلة المعتمدة في بعض المذاهب وخاصة في مذهب الإمام مالك.
الفرع الثاني: نطاق العمل بالإلهام
قلنا إن من إخوتنا من يقصر العمل بالإلهام في الترجيح بين المحتملات ويرى أن من ألهم أمرا لا ينبغي أن يعمل به – إن هو عمل به – إلا في خاصة نفسه. والمتأمل في ما أوردناه عاليه من الأمثلة والشواهد والأدلة يدرك أنه لا النص ولا آثار السلف تحصر العمل بالإلهام في النطاقين المذكورين، إذ يندفع حصر العمل به في الترجيح بين المحتملات، بما رأينا من إقرار النبي ﷺ إلهامات صحابته، ومنها ما لم يكن ترجيحا بين محتملات، إلا إذا توسعنا فاعتبرنا كل ممكن محتملا، وحينئذ يكون تعليق الإلهام بالمحتملات توسيعا لا تضييقا من نطاقه.
وإليكم كلاما لابن تيمية احتاط فيه وأنصف، فقد قال في الفتاوى “الْجَوَابَ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ التَّصْدِيقُ بِهِ” ولا مراء في ذلك، وأضاف: “وَمَا كُشِفَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ هُوَ صَادِقٌ عِنْدَهُ فَهَذَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ عَلِمَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُ إيمَانًا وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ التَّصْدِيقَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ”. فهذا كما ترون كلام منصف فهو لم يقل إن ما علم عن طريق الكشف لا يعمل به إلا من كوشف به، ولم يقل إنه لا يعمل به إلا في الترجيح بين المحتملات، بل تحدث عن الإلهام في المسائل العلمية، وهي ليست حصريا مسائل احتمالية، وقال “ينتفع به من علمه”، و”من” هنا تشمل المكاشَف وغيره ممن علم الخبر وصدق فيه المكاشف.
وكذلك الصوفية لا يقولون إن شيئا مما ذكروه يجب الإيمان به على جميع الخلق، إلا ما اقتضاه التصديق بما جاء به الوحي، ونحوه من الأدلة، كوجوب الاستغفار من الذنب. ومفهوم عدم وجوب الإيمان بما جاء به غير النبي جواز الإيمان به.
الفرع الثالث: خطر التسوية بين الأولياء والأنبياء:
لا قائل فيما نعلم، خصوصا من القوم الذين كانوا محل اتهام في السجال الدائر، بمساواة الولي للنبي، كما أنه لا قائل بإعطاء الإلهام قوة الوحي في التشريع أو نسخ التشريع، رغم ما أسلفناه عاليه. وإليكم مثالا من كلام من بعض كبار القوم الذين كثيرا ما توجه إليهم سهام التجريج؛ فهذا الشيخ سيدي أحمد التجاني يقول “إن التشريع بإحداث حكم لم يكن سابقا طلبا للفعل أو طلبا للترك أو تعبدا أو إباحة أو نقض حكم سابق في الشريعة، فيبدل بحكم آخر فهذا لا سبيل للأولياء إليه، إذ هذا متوقف على النبوءة فقط”.
وخلاصة القول أن ثمة شواهد جمة تشهد لعمل النبي ﷺ بإلهام أصحابه وتزكيته له، ولعمل الصحابة بالإلهام في أنفسهم ودعوة غيرهم للعمل به في أبواب عظيمة من الدين، فما المانع، والحال هذه، من أن يعمل به المؤمنون من بعد في الصلاة على النبي ﷺ، وقد علم أن الأمر بها عام غير مخصوص؟ ومع ذلك فإن من كبار الصوفية – وقد ذكرنا بعضهم – من ذهب إلى عدم حجية الإلهام، وما كان ذلك ليضيرهم شيئا لأنهم مستغنون بأدلة والكتاب والسنة عن البحث لأورادهم وصلواتهم عن أدلة من خارجها. وعلى كل فليس ثمة خلاف على اشتراط كون ما يقع به الإلهام موافقا للشريعة وداخلا تحت عموماتها ليسوغ العمل به، وإلا كان لغوا وانتفت عنه صفة الإلهام الذي يؤتيه اللـه عباده الصالحين

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق