أدب وثقافةتراجمتراجم وأنساب

محطات زاخرة في تاريخ عائلة آل إبراهيم العلوية

حماد ولد أحمد

حفظت ذاكرة التاريخ أن (إمارة أولاد رزك) العريقة بسطت حكمها على الجنوب الموريتاني على مدى ثلاثة قرون متتالية، ومثلت معركة “انتتام” الشهيرة سنة 1630م طيا لصفحة حكم إمارة (أولاد رزگ) على الجنوب الموريتاني بعد زهاء ثلاثمائة عام من السيطرة والنفوذ والحكم الأنموذجي الذي شهد نشر الثقافة العربية وبسط اللسان العربي الذي أصبحت اللهجة الحسانية فيما بعد امتدادا له واستمرت كلغة خطاب وحياة وتعايش إلى يوم الناس هذا، و”انتتام” موضع يقع شرق الركيز بحدود عشرين كيلومتر،

ومن المعروف أن (أولاد رزگ) وتفرعاتهم القبلية الأخرى (أولاد عائد وغيرهم) هم أبناء عمومة مجموعة “تروز” التي ظفرت بالسيطرة على الجنوب الموريتاني بعد المعركة المذكورة آنفا، لتعلن قيام إمارة (الترارزة) اشتقافا من تسمية المجموعة هذه “تروز”، وهي المنحدرة في الأصل من مجموعة لمغافرة، ويلتقي نسب الجماعتين عند جدهم الأعلى أدي بن حسان الجد الجامع لبني حسان عموما،

فمغفر ورزگ ابنا أدي بن حسان، إضافة إلى أخيهم أحمد الجد الجامع لقبيلة ايديقب، كما أكد ذلك العالم المؤرخ صلاح بن عبد الوهاب الناصري في كتابه “الحسوة البيسانية في الأنساب الحسانية” وكل هؤلاء المجموعات نسبهم جعفري علوي، كما يقول الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله في شهادة نسب صادرة بتاريخ 1404 للهجرة في الحادي عشر من رمضان يوم كان رئيسا للمحكمة العليا إذ يقول: (ليعلم كل من يقف على هذا المكتوب أن مما لا ريب فيه صحة نسب المغافرة وأبناء عمومتهم إلى آل البيت، وأن الذي عليه عامة المؤرخين من هذه البلاد من العلماء العدول أنهم أبناء ادي بن حسان الذي ينتهي نسبه إلى علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب).

و لم يبق الآن من بطون “أولاد رزك” إلا القليل من الأسر التي تفرقت بين قبائل الزوايا والعرب واندمجت فيها بالخؤولة المتبادلة وصاروا وإياهم ذرية بعضها من بعض.
هذا إذا استثنينا ما يطلق عليه في الاصطلاح المجتمعي العرفي “الخالفة الكحلة” والتي ما زالت تحمل اسم بعض قبائل أولاد (رزگ) كأولاد عائد في شمامة، وأولاد بوعلي في مقاطعة (كرمسين)

ولست هنا بصدد شرح تفاصيل أسباب الصراع المرير على النفوذ بين القبائل العربية التي حكمت الجنوب الموريتاني، ولا كيف استعان أمير اترارزة ” أحمد بن دانات ” في معركة ” انتتام” بسيدي أحمد لعروصي الذي جاء من الشمال غازيا قبائل الزوايا، وقد قال له “أحمد بن دمان” قولته المشهورة التي أوردها مؤلف الحسوة البيسانية: علينا أن نقضي أولا على النعام يعني أولاد رزگ ونتفرغ بعد ذلك لبيضه يعني قبائل الزوايا، فكل هذه الأمور فصل فيها وأصل مؤرخون كثر، مع العلم أن القبائل العربية في هذا المنكب البرزخي لم تهتم يوما بكتابة تاريخها ولا أنسابها، وهذا هو دأب أغلب سكان هذا البلد ذي الطبيعة البدوية الصحراوية، إذ يعتمد على الرواية الشفهية البحتة، ويحتاج تاريخه إلى الكثير من البحث والتنقيح والتمحيص.

وفي هذا الخضم وعبر هذا الملمح التاريخي المليء بالحروب والصراعات شاءت الأقدار أن يقرر والدنا العلامة عبد الله بن محمد “الغاظي” أن يهاجر من شنقيط معتزلا حربا ضروسا دارت رحاها بين أبناء العمومة “إدوعلي البيظ وإدوعلي الكحل” ويستقر في منطقة القبلة هو ومن رافقه من عشيرته الأقربين، نعم لقد كان ذلك بداية الاندماج الحقيقي بين أسرة آل إبراهيم وأبناء عمومتهم مع العلويين القادمين من الشمال ليبدأ تاريخ مشترك من التكامل والتعايش والتآزر بدأ قبل زهاء أربعة قرون،

وكان والدنا محمد ولد سيدي لأمه شيدومة بنت ألفغ عبيد ولد الغاظي أول الأحفاد المباشرين للغاظي، مع ملاحظة أن بعضا من آل إبراهيم تقرى مع أخوالنا الحسنيين فخذ “ادوگتشلل” وهي تسمية دلالتها بالفصحى “المتعلقون بالله” وقد قال لي الأديب والشاعر أحمدو ولد عبد القادر قبل فترة أثناء إنجاز بحثي هذا (إن أسرة آل السالم الكرام من آل إبرهيم أسرة منا ونحن منهم).

ومعلوم أن جدنا محمذن ولد إبراهيم المدفون في مدفن الحسنيين الشهير “اندبيجر” مع جدنا السيد ولد الغاظي ولد الزبير وغيره من أسلافنا العلويين أمه “إدو گتشلاوية” كما دُفن كذلك والدنا “الغاظي” في تنبلين المملوكة لأخوالنا الشقرويين “ايداشغره”.

إن هذه العلائق والوشائج المبنية على البر والتقوى ووصل ما أمر الله به أن يوصل لم تشهد من القوة ما شهدته حين جاء شيخنا الولي الصالح الشيخ محمد الحافظ ولد المختار ولد احبيب ومعه الطريقة التيجانية في عام 1220 للهجرة، فكان جدنا أحمد من السباقين لأخذ ورد الطريقة التيجانية، ولا غرو وهو من هو في الاستقامة والفضل والزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله، ودفن بعد وفاته في مدفن تمبيعلي حيث أعلام العلويين وساداتهم،

وكانت أم عياله المرأة الفضلى الصالحة مريم بنت أحمد ناصر ولد أبو إسحاق المشهورة بالبذل والتميز في قومها، وقد حفظ لنا ديوان المآثر المرقونة للسلف ما كتبه في حقها بعض الأدباء الذين نحتفظ بإنتاجهم، فهي مريم التي لم تكن تتناول طعاما هي وابنها جدنا محمد عبد الله قبل أن تفرغ من ضيافة شيخنا بدي ولد سدين، وما أدراك ما بدي ولد سيدين فهو بحر علم وولاية وصلاح، بدي الذي حين تُوفي رضي الله عنه قبيل أن يُدفن في “لميلحة” سأل أحد مريديه گاري ولد السالم أن يبيع له “لميلحة” المملوكة له، فأجاب بأن (معاذ الله أن أبيع أرضا سوف تكون مثوى لشيخي) وعلى ذات النسق تقول بنت عمه آمنة بنت فال ولد الطاهر زوج باب ولد أحمد بيب: الحمد لله على خسارتنا معركة (انتتام) لأنها تفضل صحبة العلويين وتداخل الأنساب معهم على بهرج الإمارة وزخرفها.

ومن حكايا سلفنا الصالح ما قاله الشيخ سيدي محمد ولد آب رضي الله عنه بأن الشيخ العلامة الورع الداه ولد أحمد فال كان حين يأتي ضيفا على حي العلويين الذي يوجد به محمد عبد الله ولد عبد الله ولد إبراهيم “دداه” علما لا ينزل إلا معه لتيقنه من أن لا شائبة بماله،

وكان محمد ولد الطلبة حين ينادى بالعطية في المسجد ويكون والدنا محمد محمود في سفر خارج الحي يقف ويقول: هذه عني وهذه عن ابن خالتي محمد محمود، فخالتنا خديجة بنت جدود أخت لجدتنا أسماء بنت عمي ولد محمد سيدي، وفي وثيقة لدي بخط شيخينا حميين والداه ولد الطلبة يقولان: إننا نشهد أن محمد محمود ولد محمد عبد الله ولد أحمد عدل رضى.

وتحتفظ لنا الذاكرة الجمعية بما شهد به جدنا محمود ولد محمدي ولد أحمد ال خيار في حق أبناء إبراهيم حيث أفاد في سياق الإشادة بهم بأن ما قدمه أبناء بنات العلويين من ذب عن أخوالهم لا يقاس بسواه.

وقد عرفت نساء هذه العائلات بالاشتغال بالقرآن العظيم دراسة وتدريسا، وقد روى لي ثقاة عن محمد ولد محم عبد الرحمن ولد محم “أبح” أن محم ولد العباس أخذ القرآن الكريم عن والدته الناصرة بنت السالم، ويقول الداه ولد محمد الحافظ ولد الطلبة رحمه الله: لم أحتج أنا وإخوتي لأن ندرس القرآن خارج منزلنا، فقد كفتنا جدتنا أم المؤمنين بنت أحمد ل ابراهيم وخالاتنا بنات عبد الله مؤونة ذلك.

أما قصة صربة شيخنا حميين التي هي رافد تربية لصغارنا وكبارنا وما جرى فيها من حوار بين والدنا دداه والشيخ عبد الله ولد اباه فذلك مربط الفرس وهو بيت القصيد.

وقبل سنوات قليلة مر شيخنا العلامة اباه ولد عبد الله على ذات السواحب ووقف يخاطب والدنا “دداه” ببيت إمرئ القيس الشهير:
فلو أن أهل الدار فيها كعهدنا
وجدت مقيلا عندهم ومُعرسا

ولا أستطيع أن أختم هذه الشذرات السريعة قبل أن أزينها وأدبجها بالقطعة الشعرية الشهيرة للشيخ العلامة محمد ولد الداه ولد أحمد فال في حق أسلافنا الغر الميامين وقد صدرها ابن عمتي الدكتور الشيخ ولد الطلبة باستهلال شعري مناسب، جعلنا الله خير خلف لخير سلف:
محمدُ نجلُ الداهِ شاعرُ ذا القطر
وما كان ممن يمدح الناسَ أو يُطري
ولكن أخوالا لنا جل شأنهم
فنالوا ثناء الناس في الشعر والنثر
رآهم ذوي عهدٍ وعلمٍ وسُؤدد
فسخَّر ما تُبدي القريحةُ من سِحرِ
نحا وصفَهم في سائغِ الشعرِ فانبَرَى
له الوصفُ مدحا لا يقارَنُ بالدُّر
هم (آل إبراهيم) إذ قال واصفا
لما قد حووا قدما – ولا فخر – من فخر:
(َبَنَى آلُ إبراهيمَ بيتا من العُلا
علاَ كلَّ عالٍ من ذوي البدوِ والمِصر
ومجدُهمُ ساسُوهُ بالعلمِ والتُّقى
وبذلِ كرامِ المالِ فى العُسر واليُسر
بنونا الأولى سادوا فسادوا مراتبا
تسامتْ على أُفقِ النعائمِ والنسر
فنحن همُ حقا وهمْ نحنُ مثلما
مزجتَ بماءِ المُزنِ صافيةَ الخمر
ولا عيبَ فيهمْ غيرَ ما فى طباعهمْ
من البُعدِ عن ما بالمروءة قد يُزري
بلوناهمُ حاليْ رخاءٍ وشدةٍ
فكانوا على الحاليْنِ من غُرَرِ الدهر)

حماد ولد أحمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق