أدب وثقافة

تعليقة للشيخ الخليل النحوي على تدوينة د. التقي بن الشيخ عن مجلس اللسان العربي

تعليقة على تدوينة الأخ د. التقي بن الشيخ عن مجلس اللسان العربي

تواترت علي، في بضع ساعات، مكالمات ورسائل تسترعي كلها انتباهي إلى مقالة – وصفت بأنها عاتبة – كتبها أخي الشاعر والأديب المبدع والمثقف الكبير د. التقي بن الشيخ، تعليقا على انطلاقة مجلس اللسان العربي.
ألقيت نظرة عجلى على الرابط، وقبل أن أعود إلى شواغل عاجلة أخذت مني وقتا، بادرت فاتصلت بأخي د. المختار الجيلاني الأمين العام للمجلس، وطلبت منه أن يعيد نشر المقالة العاتبة كما هي على صفحة مجلس اللسان العربي (مَعْلم). استحضرت وأنا أطلب منه ذلك مقالة سيدنا عمر رضي اللـه عنه “رحم اللـه امرأً أهدى إلينا عيوبنا”، فعلينا أن نتقبل النقد، أحرى إن كان مؤسسا، ولا يكون في صدورنا منه حرج. ثم رأيت أن نشر مثل هذه المقالة لمثل هذا العلم، هو ضرب آخر من التأسيس للمجلس، وأن العتاب الوارد فيها هو إلى المدح أقرب منه إلى القدح، فحديث يصدر عن مثل الأستاذ التقي يعتبر بذاته تقريظا حتى وإن كان عتابا. ألم يقل الشاعر:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالك
فكيف وما قال التقي هجرا، وإنما أزجى عتابا أنيقا رقيقا في أدبين، رائق وراق.
ذلك كان انطباعي المجمل قبل أن أقرأ التدوينة بشيء من التؤدة. وحين عدت إليها آنفا، أثارت في نفسي خلطة مشاعر قررت البوح بها لمن يقف عليه.
غبطت الصديق المتهم بالطيبة الزائدة لحد لتغفيل في دعوته المرة تلو المرة أديبنا د. التقي ووددت لو كنته. وإذ لم أكنه، عندئذ، فكم كان يقر بعيني لو أن أخانا التقي استجاب له، وإذن لرجونا أن لا يجد نفسه بين خطتي خسف؛ وإذن لكانت له في نصيحة د. عادل باناعمه مندوحة عن مذهب الأسدي ومشرب الموصي “وصية الوالد والوالدة”، ولكان قد أسدى إلينا عارفة، كما فعل نفر من وجوه الثقافة في البلد ممن لم تبلغهم الدعوة وتمثلوا – رغم ذلك – بلسان الحال مقال الشاعر:
نزوركم لم نؤاخذكم بجفوتكم إن الكريم إذا لم يستزر زارا
وإذن، لكان التقي التقي لا ضيفنا بل ولا ضيفا بل لكان رب المنزل الداعي والجمع ضيفه، وهيهات وحاشا ومعاذ اللـه أن يحلَأ مثله عن حياض هو عليها ساق ومدير كاسات. ولقد كانت له أسوة حسنة بشاعرنا ابن السالم إذ قال عن نفسه:
قراه إذا ألم بأرض قوم مفاكهة اللبيب من الرجال
طبعا، قرى يقدمه التقي في المقام الأول لضيفه، وهو بالسبب ممن “إذا شهدوا زانوك في كل مجمع”؛ ممن يصدق في حقه قول الشاعر:
لكَ في المحافلِ منطقٌ يشفي الجوى ويسوغ في أُذن الأديب سلافهُ
فكأنَّ لفظك لؤلؤٌ متنخلٌ وكأنَّما آذاننا أصدافهُ

وددت ووددت… ولكنني مع ذلك أتفهم جيدا موقف أخي التقي، وهو القائل:
لو شئت نادمت أهل المال والأمرا وكنت ممن لديهم يحضر السمرا
ولو أردت بمعسول الكلام غنى ما فاتني أبداً أن أدرك الوطرا… إلخ.
أتفهمه، وإن لم تكن تلك مائدة أمراء ولا أهل مال.

أعلم أن من حقه أن يتمثل أيضا بأبيات الزمخشري في شكواه أهل زمنه وبقول الجواهري:
أينكر ألفتي حتى صحابي وتنبو الأرض بي حتى بلادي
ومن عجب تضيعني وذكري تردده المحافل والنوادي
على أن الأمر من ذلك بعيد، فما أنكرت التقي صحابه ولا نبت به بلاده، وإن قصر في حقه من قصر {وما أبرئ نفسي}.
أحسب أن التقي لا يستصغر أيا ممن وردت أسماؤهم في قائمة، محدودة ومؤقته بطبعها، لأعضاء مجلس اللسان العربي، وأشهد في الوقت ذاته أن التقي ليس بلابس ثوبي زور، وما هو في ميدان الضاد بدعي، بل هو فارس من فرسانها المجلين، وغيابه عن محفل من محافلها أيا كان ثغرة في المحفل لا في الغائب الحاضر، فما يكون لمثل التقي أن يُنسى أو يطوى في صحف إبراهيم وموسى، بل حقه وحق مثله أن يذكر فيشكر، وأن ينزل منزلته، وأن يكون مطلوبا لا طالبا.
لذلك أتفهم عتبه وأتقبله بل وأعترف له فيه بالجميل، وأضعه في حساب من حسابات ادخار المودة المفتوحة فيما بيننا، فقد قالوا “من لم يعاتب على الزلّة، فليس بحافظٍ للخلة”، وقالوا “المعاتبة خيرٌ منَ القطيعة، والقطيعة خيرٌ منَ الوقيعة”، وقالوا “العتاب الظاهر خير من الحقد الباطن”، وقال الشاعر:
إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب.
هكذا أريد أن أقرأ تدوينة أخي الأستاذ التقي. وعلى تعدد المعاذير فحسبي أن أستعير من شاعر متقدم عذره حين قال:
ومنْ كان ذا عذرٍ لديك وحجّةٍ … فعذريَ إقراري بأن ليس لي عذرُ

ضاعت على المجلس فرصة جلسة مع التقي..
لجلسة مع أديب في مذاكرة أجلو بها الهم أو أستجلب الطربا
أشهى إلي من الدنيا وزخرفها وملئها فضة وملئها ذهبا
فما ظنك إذا كان ذلك الأديب التقي بن الشيخ!
ولئن ضاعت تلك الجلسة بخطأ منا – وما كل يقول عذره كما كان الإمام مالك يقول – فإنه ما ضاعت علينا ولا على أخينا التقي فرص المجلس الوليد الذي يحتاج في حضانته وتغذيته وتربيته وترقيته إلى كل فرسان الضاد العاملين عليها ولها، خصوصا أولي العطاء البحثي الرصين الشاهد بعمق الخبرة وحسن الخدمة.
ثمة شعور توقعه مني بعض من اتصلوا بي لم أجد له مسلكا في قلبي البتة: العتب على د. التقي واستغراب ما قال، فما قال إلا حقا. وما أضاف بقوله شيئا إلى إحساس عميق بالتقصير والقصور كنت نويت أن أبثه الحاضرين في حديثي ثم أفلت مني مع فكرة أو فكرتين وتلك من بوائق الارتجال.
كنت أريد أن أقول إننا نعلم أن من فرسان اللسان العربي في البلد من لم نتمكن، لسبب أو لآخر، من استنفارهم في مرحلة التأسيس، وكم من مولود خديج اكتسب قوة من بعد ضعف، فنما حتى استوى وبلغ أشده واشتد عوده. وكذلك نرجو أن يكون هذا المجلس بجهود سدنة اللسان العربي ومنهم أخونا التقي الذي أزجي إليه بالمناسبة خالص الود وصادق التقدير.

الخليل النحوي

المصدر

 

وهذا ما كتبه الدكتور التقي ولد الشيخ قبل أيام :

عن مجلس اللسان العربي في موريتانيا / الدكتور التقي الشيخ

في بداية الأسبوع الماضي طلب مني بعض من يستسمن ورمي ويحسن بي الظن ـ عافاه الله من داء التغفيل ـ أن أُرافقه لحضور إفطار دُعي له ينظمه “مركز حماية اللغة العربية” لبعض سدنة الحرف حسب تعبير صديقي الطيب حدَّ التغفيل وبعد التعلل في غير تكلف استطعت أن أتنصل من طلب رفيقي ذلك، لكنه ما نشب أن أعاد الكرة ملتمسا مني حضور إفطار تنظمه الشخصية العلمية والأدبية الرصينة ذات العطاء المعرفي المشهود شيخنا الشيخ الخليل النحوي على شرف لفيف من المهتمين باللغة العربية والمنافحين عنها وتعلن فيه انطلاقة أنشطة “مجلس اللسان العربي” ولا أكتمكم سرا إذا قلت لكم إن فَتْر طلب صاحبي ذلك قد ضاق عن مسير معاذيري لعظم المناسبة الثقافية وتقدير مكانة صاحبها الخليل النحوي الذي يسر المرء أن يحل”ضيْفَناً” عليه لولا أنه بقي في قوس الصبر عن حضور ما لم أُدع له منزعٌ؛ وقد عودت نفسي على أن لا أحشرها في المكان غير المناسب وأي إحراج يعرض له المرء نفسه أكبر من الجلوس إلى مائدة لم يسعه انتقارها!

ألح صديقي وألح معتبرا أن دعوة أمثالي لمثل هذه المناسبات ومن مثل تلك الشخصيات هي دعوة تلقائية، وفي قوله ذلك طيبوبة زائدة وقفز على الأعراف العلمية وإهمال لمتطلبات الذوق الراقي ونزوع إلى فطرة بدوية طرفية شعارها:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر
ولأياً أقنعت صاحبي بوجاهة ما أراه مما بسطت آنفا لأقول له إنني من معتنقي نصف مذهب القائل:
يا أيها الإخوان أُوصيكم وصية الوالد والوالــــده
لا تنقلوا الأقدام إلا إلى من عنده قد ترتجى فائده
إما لعلم تستفيــــــدونه أو لكـــريم عنده مائده
فلا أعدم سببا في السعي للأُولى طالبا ولا أجد مسوغا للسعي إلى الثانية واغلاً.

وقد أكون متشبعا بما لم أُعط ـ في نظر البعض ـ إذا زعمت أنني ممن خدم اللغة العربية جِبلَّة وأن مجهودي ذلك قد يوازي مجهود بعض أعضاء ذلك المجلس الموقر من فلاسفة وعلماء اجتماع وفقهاء ووجهاء وأشخاص غير مصنفين بمقدورهم أن ينازعوني أحد ثوبي أو كليهما!
ومع أنني أعرف إخلاص أُستاذنا الخليل وتفانيه في خدمة اللغة العربية فلم تكن عدوى تغفيل محاوري لتصرفني عن الفطنة لما يواجهه مثل مشروعه ذلك من عقبات وإكراهات أقلها فداحة الإذعان لمحاصصة تفرز جهةً وعرقاً ومذهبا ولا تحرز لغة ولا نحوا ولا صرفا.

وعنِّي فقد تعودت على الإهمال والإغفال في مثل هذه المواسم والمنابر التي يضعك أغلبها بين أمرين؛ إما أن تقف متفرجا على تصدر المتعاطفين مع اللغة العربية صابرا على شديد أذى التقعر والتفاصح والتردي في مهاوي العاميات والرطانات، وإما أن تتكلف ما ليس لك بخلق من التمسح بالأعتاب والولوج فيما لا يعني حتى ولو كان ذلك بهدف خدمة غرض نبيل، وهنا يكون خيار الأسدي واردا للنجاة من مثل تلك الخيارات:
تجهز فإما أن تزور ابن ضابىء عُميرا وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسف نجاؤك منهما ركوبك حوليا من الثلج أشهبا

في سنة فارطة ـ والأمر للأمر يذكر ـ قُدِّر لي أن أتعاون مع الجامعة في تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها ومع شرف تلك المهمة فقد كنت أجد على الجامعة وأرى أنه قُدِر علي في مجال أرى لنفسي فيه فسحة فكتبت أبياتا ثلاثة علق عليها فيما بعد الدكتور الفاضل عادل باناعمه والأبيات هي:
عكفت على الفصحى صغيرا ويافعا وفازت من أيام الحياة بخيرها
فلم أر فضل السبق فيــــــها لسابق أبنَّ بمغناها وسار بسيرها
سوى أنه عــــــــنها سيبقى محلأً يدرسها للناطقين بغيرها
وتعليق الدكتور هو:
لأنك يابن الأكرمين مؤمل لخدمتها فاصبر على حر ضيرها
فما فتحت بابا لمال وإنما يلذ لذي التقوى الخضوع لسيرها
فكن طيرها الشادي ويا رب روضة أجلُّ مغانيها أهازيج طيرها
ألم أقل لكم إنني تعودت!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق