الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

سَفَريّات / ذ. السيد أحمدو الطلبة

السفر قطعة من العذاب، كماورد عن أصدق القائلين وأبلغ المتكلمين صلى الله عليه وسلم  ..

 

فلا بد من شوق أوطمع يكون رفيقا خلال السفر يُسَهِّل من متاعبه ويُخفّف من وقع سياطه ..

وكم تأنّس المسافرون المشتاقون وأنّسوا مراكبهم  وأحيوها بأحاديث الذكرى وشيم بارقات الوصول الذي تُنسي حلاوتُه مرارة مجاوب البيد وتغسل قتام مجاهلها:

لها أحاديثُ من ذكراكَ تشغلها

عن الشراب، وتلهيها عن الزاد .

 

إذا اشتكت من كلال السير أوعدها

قربَ المزار، فتحيا عند ميعادِ .

 

مِن نور وجهكَ نور تستضيء به

ومِن حديثكَ في أعقابها حاد .

 

ورحلة محمدُّ ولد محمدي على ظهور الإبل في الصحاري المعطشة التي اقتضت عشرين يوما على الأقل سهّلها ذلك الأمل الذي يحدوه بوصل أحبته:

شمّر لعل رسيم الأينق الذلل ….. من بعد عشرين يُدني ساكنِي العُقَلِ .

سرْ مدمنا عبرَ أمواج الهجير، وسر ….. تحت الدجى ثالث البيداء والإبل .

سهلٌ تجشُّميَ البيداء معتسفا ….. إن كنتُ من وصل مَن أهوى على أمل .

 

وله من قصيدة في مدح الكنسوسي -وقد أجاد ما شاء-:

إلى مثل ابن أحمدَ فليُسافرْ ….. أخو العزمات، أو يدع السفارا .

 

وفي نفس القصيدة يقول عن الممدوح:

 

سرى لمحمد في الأرض ذكر …..

يسير به المسافر حيث سارا .

 

ولما كان الطمع رفيق المتنبي ركب المفاوز والمَضَلّات المعطشة ليصل إلى باب كافور الذي تبيّن له فيما بعد أنه مخيب للآمال:

 

أبا المسك ذا الوجهُ الذي كنتُ تائقا / إليه، وذا اليومُ الذي كنتُ راجيا .

 

قطعتُ المرورى والشناخيب دونه / وجبتُ هجيرا يترك الماء صاديا .

 

وفي هذه القصيدة يذكر المتنبي سفرا طويلا من نوع آخر، هو سفر في أصلاب الآباء تتوقف ركابه عند عصر الممدوح:

 

فتى ما سرينا من ظهور جدودنا / إلى عصره إلا نرجي التلاقيا .

 

وقد علق على تلك الرحلة شيخنا -حفظه الله- بأنها وعثاء السفر، قائلا إن هذا المعنى وضِع في غير موضعه إذ لا يستحقه إلا النبي صلى الله عليه وسلم ..

 

ومن أرقّ شعر السفريّات ما يكون تعبيرا عن مواجد الملتفتين خلفهم بعدما ودّعوا وسارت بهم الركائب، فخانهم الجلَد وكذّبَتْهم شواهدُ الامتحان، كقول أحد الموالي وقد سافر به مشتريه بعدما تمّ إبرام صفقة بيعه، فلما رأى أن رحلة الفراق جدّ جدُّها أنشأ يبكي ويقول متشوقا لمالكه الأول:

 

أشوقا ولما تمض لي غير ليلة / فكيف إذا جد المطي بنا شهرا ؟

 

وما كنتُ أحجو معبدا سيبيعني /بشيء، ولو أضحت أنامله صفرا .

 

أخوهم ومولاهم وحافظ سرهم /ومن قد ثوى فيهم وعاشرهم دهرا .

 

ومن أرق هذا الباب وأصدقه قول الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديّ بعدما وصل حدود الصحراء في مهمة، فاشتاق إلى حضرة والده وشيخه ووهَن ركن صبره:

 

أحمراء السواقي ما ورائي ؟

ألان غربتَ أيها الانتشائي !

 

تخال نصيصَ فُتْل العيس شهرا

يدوم من الصباح إلى المساء .

 

ولا ينأى به ما كان دان

ولا يدنو به ما كان ناء .

 

ومن حلو أدبيّات الأسفار تلك الأحاديث التي يتبادلها الركبان يقطعون بها الطريق ويخففون بها العناء:

 

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومَسَّح بالأركان من هو ماسحُ .

 

وشُدَّت على دُهم المطايا رحالنا

ولم ينظر الغادي الذي هو رائح .

 

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطيّ الأباطحُ .

 

ومن خلال تلك الأحاديث كثيرا ما يسمع الشعراء عن نبلاء لم يكونوا يعرفونهم، فإذا التقوا بهم بعد ذلك يكون الحكم الفصل للمعاينة إذ لا أثر بعد عين، ومن جيّد ذلك قول أحدهم:

 

كانت محادثة الركبان تخبرنا

عن أحمد ابن فلاح أحسن الخبر .

 

حتى التقينا، فلا والله ما سمعَتْ

أذْني بأحسن مما قد رأى بصري .

 

وقول المتنبي:

 

وما زلتُ حتى قادني الشوق نحوه

يُسايرُني في كل ركب له ذكْرُ .

 

وأستكبر الأخبار قبل لقائه

فلما التقينا صغَّر الخبَرَ الخُبْرُ .

 

وإن كان المتنبي قد سرق هذا المعنى من قول بشار:

 

وصغّر في عيني اختبارُ خصاله

محاسنَ أخبار أتتني على البعد .

 

ومن الأسفار تنشأ المقارنات بين الشعوب والأمم فتُكتشَف المحاسن وتستشَفُّ الخصائص، فمنها اكتشف علي بن خلف الهمذاني رقة شمائل سكان بغداد وجيران دجلة وعذوبة ألفاظهم وحلاوة معانيهم:

 

لقد جلتُ في شرق البلاد وغربها

وطوّفتُ خيلي حولها وركابيا .

 

فلم تر عيني مثل بغداد موطنا

ولم تر عيني مثل دجلة واديا .

 

ولا مثل أهليها أرَقَّ شمائلا

وأعذبَ ألفاظا، وأحلى معانيا .

 

ومن الأسفار اكتشف أحمد شوقي جمالا خاصا في بيروت لا يوجد في غيرها من المدن:

 

بيروتُ يا راح النزيل وأنسه

يمضي الزمان عليّ لا أسلوكِ .

 

الحسن لفظ في المدائن كلها

ووجدتُه لفظا ومعنى فيكِ .

 

ومن رقيق السفريّات النَّسِيبيّة مساءلة أبي صخر الهذلي للركب القادم من صوب الحمى والذي لم يظفر منه بخبر عن أحبته:

 

ألا أيها الركب المخِبُّون هل لكم

بساكن أجزاع الحمى بعدنا خُبْرُ ؟

 

فقالوا طوينا ذاك ليلا، فإن يكن

به بعض مَن تهوى فما شعر السفر .

 

وهذا ما أشار إليه شيخنا محمدفال بن باب رحمه الله في قوله:

 

فلا تطوها ليلا إذا كنت سائرا

وعرّجْ على أحيائها، وسل الخُبْرا .

 

ومن محاسن السفريّات الشعرية وصية أخلاقية وأدبية للمسافرين من توجيهات والدنا يحيى القاضي محمّدن ولد أحمدُّفال رحمه الله:

 

رفيقَ السفْرِ إن سَئِم الخوادي

وبالأزواد ضُنَّ وما المزادِ .

 

يُنادى بالسفار عليكَ بيتا

نماه إلى درَيدٍ أيُّ شادِ.

 

(ويَبقى بعد حلم القوم حلمي

ويفنى قبل زاد القوم زادي .)

 

وهذا ما حضر مما احتفظتْ به ذاكرتي وأوراقي من أدب الأسفار، وأطايب جَنا المذاكرات ومحادثات الأسمار …

 

إذا جئتَ يوما أم خيدا فقل لها / رعى الله أيام الصبا ما أقلها .

 

تولّهتُ لما أن توليتُ عنكمُ / وإن امرء عنكم تولى تولّها ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق