الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

الشعر والملك / أ. السيد أحمدو الطلبة

الأدب والمُلك قرينان منذ العصور الأولى للشعر، فما فتئ الملوك يعتنون بالشعراء والمغنين ويحرصون على الانتقاء منهم والتخيّر فيهم، يدنونهم من مجالسهم ويزيّنون بهم ندي سامرهم ..

 

في مقايسة عفَوية أملاها علي ما قرأت عن ملوك الحقبتين الأموية والعباسية بدا لي جو قصر المُلْك الأموي كثيفا لا مدخل فيه لرقة الأدب ولا صفائه إلا تكلفا وتعمّلا، ليس قصدي أن هذا العصر لم يكن فيه الشعر مزدهرا أو لم يكن للبلاط فيه شعراؤه وحلبات رهانه، لكني أتحدث عن أصحاب القصور ومُلّاك أزمة الأمور، فلا نجد لخلفاء الأمويين شعرا رقيقا يُروى إلا ما كان من شعر يزيد الفويسق قاتله الله، فلا شك أنه شاعر مُجيد يرقّ ما شاء ..

أما في العصر العباسي فقد تعايشَتْ في داخل قصور الخلافة سطوة الملك ورقة الحب وائتلفا في مشاهد تكاد تجمع بين الثلج والجمر، فالخلفاء الذين يقطعون رؤوس الضراغم نهارا يسقطون تحت جنح الليل أسراء في شراك الظباء .. فالرشيد الذي أباد البرامكة بسيف من ليس في قلبه مثقال ذرة من الرقة، هجرته جاريته “ماردة” أم ولده المعتصم وطال الهجر، فلما سمع إنشاد النديم الموصلي أبيات مروان بن أبي حفصة التي يصف بها ذلك الموقف:

 

راجع أحبتك الذين هجرتهم …. إن المتيم قلما يتجنب .

إن الصدود إذا تطاول منكما …. دبّ السلوّ له فعز المطلب ..الخ

 

ضاقت به الأرض بما رحبت، وما كان منه إلا أن هُرع إلى مملوكته وترضّاها لتعود الأمور كما كانت ..

 

والخليفة الأمين بن الرشيد أجاز مغنيا أنشده:

 

هجرتكِ حتى قيل لا يعرف الهوى …. وزرتكِ حتى قيل ليس له صبر .

 

بملئ زورقه ذهبا ..

 

ومن الشعر الذي يُعزى له في غلامه كوثر:

 

وصف البدر حسن وجهك حتى …. خلت أني أراه لست أراكا ..الخ

 

ومن شعر الخليفة المامون:

 

لساني كتوم لأسراركم …. ودمعي نموم لسري مذيع ..الخ

 

والمعتصم الذي كان ذا بضاعة من التعلم مزجاة وكان شديد البأس، وجدناه يرقّ أحيانا:

 

لقد رأيت عجيبا …. يحكي الغزال الربيبا ..الخ

و”عجيب” علم على غلام له ..

 

والواثق أيضا في جزالته وأبهة ملكه:

 

يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا

ما أنت إلا مليك جار إذ قدرا .

 

لولا الهوى لتجارينا على قدر

وإن أفق منه يوما ما فسوف ترى .

 

غير أن الواثق في شطره الأخير تذكر ملكه وخرج عن آداب الهوى وأعرافه المعهودة ..

 

والمتوكل وقفت له جاريته أم ولده المعتز -وكان شديد الشغف بها- وقد كتبت على خدها بالمسك اسمَه “جعفر” فقال في ذلك:

 

وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا

بنفسي محط المسك من حيث أثرا

 

لئن أودعت سطرا من المسك خدها

لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا

 

 

وبالجملة فإن كثيرا من خلفاء العباسيين أُثِرت عنهم أشعار، ولم يكن للخلفاء الأمويين من ذلك كبير شيء يذكر ..

 

ومن أرق شعر الملوك ما ينسب للرشيد:

 

ملك الثلاث الآنسات عناني

وحللن من قلبي بكل مكان .

 

مالي تطاوعني البرية كلها

وأطيعهن وهن في عصياني .

 

ما ذاك إلا أن سلطان الهوى

وبه قوين أعز من سلطاني .

 

وهذا المعنى ألمّ به أحد ولاة مصر في القرن السادس وهو الملك الصالح بن زريك حيث يقول:

 

الناس طوع يدي وأمري نافذ

فيهم، وقلبي الآن طوع يديه .

 

فاعجب لسلطان يعم بعدله

ويجور سلطان الغرام عليه .

 

وأخيرا ليس في هذا الحديث عصرَ الأحكام العسكرية من جديد، فلم يكن لي من بد أن أقتصر منه على القديد، ولا يفوتني أن أنبه على أنه من صباحيات الاستعجال التي ضايق الطاهيَ وقتها عن أن يرمي فيها حبة ملح، وإن كان فَعلَ فإنها لم تمكث من بعد تمليحها شيئا على النار، فليقبلها الكريم على علّاتها وليُغْض عنها على هناتها ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق