منهجُ السلفِ في تلقي القرآنِ وتدبُّرِه
منهجُ السلفِ في تلقي القرآنِ وتدبُّرِه / د. محمد الربيعة
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على عبدِهِ ورسولِهِ ومصطفاه، أما بعد:
فإنَّ الرِّفْعةَ والعِزَّةَ التي نالها السَّلَفُ الصالح، وذَلّتْ لهم رِقابُ العربِ والعجم، إنما كانت بسببِ تمسُّكِهم الحقيقي بِكتابِ اللهِ تعالى.
وحَقيقٌ بمَن يُريدُ سلوكَ طريقِهم، أنْ يَتَعرَّفَ على منهجِهِم في تلقي هذا القرآنِ وتدبُّرِه، وهذا ما سَنُحاولُ الإشارةَ إليهِ بإيجازٍ في هذا المجلس.
إنَّ مَن تأمَّلَ حياةَ السلفِ مع القرآن، وَجَدَ أنَّ لهم مَنْهجاً في العنايةِ بهذه العبادةِ العظيمة، يُمكِن تحديدُ معالمِها فيما يلي؛ لعلَّنا نُفيدُ مِنها، ومِن أَبْرزِ تلك المعالم:
أولاً: معرفتُهم لمنزلةِ هذا القرآن، وإدراكُهم لمقصدِهِ الأعظم:
ذلك أنّ تلقِّي الأمرِ بالمحبةِ والتعظيمِ والإيمانِ؛ يؤدِّي إلى حُسْنِ التعامُلِ معه، ومَن عَرَفَ قِيمةَ الشيءِ اعتنى به واهتمَّ به، وقد ظَهَرَ ذلك في الجيلِ الأولِ من خِلالِ أقوالِهم وأفعالِهم، ومن أقوالِهم المأثورةِ في بيانِ عظمةِ القرآنِ وأَثَرِه، التي ترجموها إلى الاستجابةِ العملية:
قولُ عبدِ الله بنِ مسعود –رضي الله عنه-: (إنّ هذا القرآنَ مأْدبةُ الله، فتعلَّموا من مَأدبتِه ما استطعتم، إنَّ هذا القرآنَ هو حَبلُ اللهِ الذي أَمَرَ به، وهو النور المبين، والشفاءُ النافعُ عصمةٌ لمن اعتصم به)(1)، وعنه رضي الله عنه قال: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعلَم أَنه يُحبُّ اللهَ ورسولَه فَليَنظُر: فإِنْ كان يُحبُّ القرآنَ، فهو يحبُّ اللهَ ورسولَه) (2).
ويقولُ ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: (ضَمِنَ اللهُ لمَن قَرَأَ القرآنَ لا يَضِلُّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قَرَأَ {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}[طه:123]. (3) والمرادُ بالقراءةِ الاتِّباعُ بدليلِ نَصِّ الآية.
وقال الإمام البخاري –رحمه الله-: (لا يجدُ طَعْمَه ونَفْعَه إلا مَن آمَنَ بالقرآنِ، ولا يحملُه بحقِّه إلا الموقِن)(4).
ونحن بحاجةٍ ماسّةٍ لتربيةِ قلوبِنا على هذا المعنى، فلقد ضَعُفَ تعظيمُ القرآنِ ومحبتُه الصادِقةُ والإيمانُ به في قلوبِ كثيرين، مما أدَّى إلى ضَعفِ الاتصال به، والتأثُّرِ فيه، وهنا مَكمَنُ المشكلة، والحلُّ: غَرْسُ تعظيمِ القرآنِ في نفوسِ الناشِئة، ومحبتهم له محبةً صادقةً ينبعِثُ معها الأثَرُ والقبول، واستمرارُ التذكيرِ بقِيمةِ القرآن، وبالهدفِ الأسمى لنزولِه.
ثانياً : تعلُّمُهم وتعليمُهم الإيمانَ قَبلَ القرآن:
والمقصودُ: أنهم غُرِسَ في قلوبِهم تعظيمُ الله، وتعظيمُ أمرِهِ ونهيِه، فسَهُلَ عليهم بَعدَ ذلك تَلَقِّي الأحكامِ الشرعية، وهذا جانبٌ رئيسٌ في إحياءِ التربيةِ القرآنيةِ في النفوس.
وهذا المنهجُ قد اتخذَهَ القرآنُ في تربيتِهِ للصحابةِ أوَّلَ الإسلام، حيثُ كان أوَّلُ نزولِ القرآنِ تَرْبِيةً على الإيمانِ في السُّور المكية -وخاصّةً المُفصَّل منها- فكُلُّه في تَرْسِيخِ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخر، فأَوْرَثَ في نفوسِهم الإيمانَ الصحيحَ والتعظيمَ للقرآن، وهَيَّأَ نفوسَهم لِتَلَقِّي تَوجيهاتِه.
يوضِّحُ هذا المنهجَ -الذي رَبَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه أصحابَه- أحدُ التلاميذِ النُّجباءُ في مدرسةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهو جُندبُ بنُ عبد الله -رضي الله عنه- قال: ( كنّا مع النبيِّ r ونحن فتيان حزاير فتَعَلَّمْنا الإيمانَ قبلَ القرآن، ثم تَعلمنا القرآنَ فازددنا إيماناً)(5).
فتأمّل كيف كان النبيُّ r يَبدأُ في بناءِ الإيمانِ في نفوسِهم؛ حتى إذا ما رَسَخَ الإيمانُ في قلوبِهم، وكانوا مُؤهَّلِين لِتَلَقِّي القرآن، وجَّهَهُم إليه، فازدادوا به إيماناً(6).
ثالثاً: حُسنُ تَلَقِّيهم القرآنَ بأنه رسائلُ من ربهم للعمل والامتثال، فكانوا يتدبَّرونها بالليل ويتمثلونها بالنهار:
وقد تواترت الأدلةُ من القرآنِ والسنةِ وآثارِ السلفِ على الأمرِ بالعملِ بالقرآنِ وأنه المقصودُ الأعظم. (7)
يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-:(كان الرجُلُ مِنّا إذا تعلَّمَ عَشرَ آياتٍ لم يجاوزْهن حتى يَعرِفَ معانيَهُن والعملَ بهن).(8)
ويقول ابن عمر –رضي الله عنهما-:(كان الفاضِلُ من أصحابِ النبيِّ r في صَدْرِ هذه الأُمّةِ لا يحفظُ من القرآنِ إلا السورة أو نحوها، ورُزِقوا العملَ بالقرآن، وإنَّ آخرَ هذه الأُمَّةِ يُرْزَقُون القرآنَ منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العملَ به).(9)
كما كان هذا هو منهجُهم في تربيةِ أبنائِهم وطُلّابِهم، وتعظيمه في نفوسِهم والتوصية به، فتأمَّل هذه الكلماتِ العظيمةِ التي قالها سَيِّدٌ من ساداتِ التابعين، وهو الحسنُ البصري –رحمه الله- حيث يقول: (إنَّ هذا القرآنَ قَرَأَه عبيدٌ وصبيانٌ لم يأخذوه مِن أوَّله، ولا عِلْمَ لهم بتأويلِه، إنَّ أَحقَّ الناسِ بهذا القرآنِ مَن رُئِي في عملِه، قال اللهُ عز وجل في كتابه: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}[ص: 29] وإنَّما تَدبُّرُ آياتِه اتّباعُه بعملِه، أَمَا واللهِ ما هو بحفظِ حروفِهِ وإِضاعةِ حدودِهِ! حتى إنَّ أحدهم لَيقول: قد قَرَأْتُ القرآنَ كلَّه فما أَسْقَطتُ منه حرفاً؛ وقد واللهِ أَسقَطَه كلَّه! ما يُرَى له القرآنُ في خُلُقٍ ولا عمل! حتى إنَّ أحدَهم لَيقول: إني لأقرأُ السورةَ في نَفَسٍ واحدٍ، واللهِ ما هؤلاءِ بالقُرَّاءِ ولا العلماءِ ولا الحكماءِ ولا الوَرَعةِ! متى كانت القُرّاءُ تقولُ مثل هذا؟ لا أَكْثَرَ اللهُ في الناسِ مثلَ هؤلاء). (10).
كما يُؤكِّدُ ذلك أيضاً وصاياهم لِحَمَلةِ القرآنِ والتأكِيدِ على ظُهورِ الأَثرِ فيهم، كما قال ابن مسعود: (ينبغي لحاملِ القرآنِ أَنْ يُعرفَ بليلِه إذا الناسُ ينامون، وبنهارِه إذا الناسُ يُفطرون، وبحزنِهِ إذا الناس يَفرَحون، وببكائِه إذا الناسُ يَضحكون، وبِصَمتِه إذا الناسُ يَخُوضُون، وبخشوعِه إذا الناس يختالون، وينبغي لحاملِ القرآن أَنْ يكونَ مُستكيناً لَيِّناً، ولا ينبغي له أن يكونَ جَافياً ولا ممارياً ولا صَيّاحاً ولا صَخّاباً ولا حديداً). (11).
وهذا المنهجُ هو الذي خَرَّجَ ذلك الجيلَ وصَنَعَه، ولو أننا تَلَقَّينا القرآنَ كما تَلقّاه الجيلُ الأولُ بهذا المنهج، وربَّينا عليه أَجيالَنا، لَظَهَر لنا أَثَرُه وتَأثيرُه في نفوسِنا .
“وحين نقرأُ القرآنَ بهذا الوعْي؛ سنجِدُ عنده ما نريد. وسنجدُ فيهِ عجائبَ لا تخطُرُ على البالِ الساهي! وسنجدُ –عندئذٍ- في القرآنِ مَتاعاً وحياة؛ وسَنُدركُ معنى قولِه تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} فهي دعوةٌ للحياة، للحياةِ الدائمةِ المُتجدِّدة”(12).
رابعاً: تلاوةُ القرآنِ بتَرتيلٍ وتمهُّل وتحزّن، والقيامُ به في الليل:
وهذا هو المنهجُ الذي قَرَّرهُ القرآنُ وأَشادَ بأهلِه في قولِه تعالى: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [ الإسراء : 106- 107].
فتأمَّل كيف أَمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه بأَنْ يَقرأَ القرآنَ على مُكْثٍ؛ وهو التَّمَهُّل والتّرتيلُ وعدمُ الإسراعِ فيه، ثم أَشادَ بأهلِ هذا الوصفِ بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [ الإسراء 107 ].
وقد تجلَّى ذلك في حالِ السلف، ومما وَرَدَ عنهم في ذلك قولُ ابنِ أبي مليكة: (سافرتُ مع ابنِ عباس – رضي الله عنهما – مِن مكةَ إلى المدينةِ، فكان يَقومُ نصفَ الليلِ فيقرأُ القرآنَ حرفاً حرفاً، ثم يَبكي حتى تَسمعَ له نَشيجاً). (13)
وقال ابن مسعود: (لا تَهُذُّوا القرآنَ هذ الشِّعْر، وتَنثروه نَثْرَ الدَّقَل، وقِفُوا عند عجائبِه، وحَرِّكوا به القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدِكم مِن السورة آخرَها). (14).
فقِراءةُ القرآنِ بِترتيلٍ وتمهلٍ وتدبرٍ هو مِن أعظمِ ما يُؤثّرُ في النفس، ويُصلِحُ القلب، وذلك كان منهجُ السلفِ الصالحِ، فهل نُربِّي أنفسَنا وأجيالَنا عليها؟
أما قراءةُ القرآنِ بالليلِ فهي أَقوى وسيلةٍ للتدبُّر، وأَجدَرُ أنْ يُفقَهَ بها القرآن، ولهذا قال {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا(6)}[ المزمل :1-6 ] قال ابن عباس : هو أَجدرُ أن يفقه القرآن.
يقول الشنقيطي -رحمه الله- : “لا يُثبِّتُ القرآنَ في الصّدْرِ، ولا يُسَهِّلُ حِفظَه ويُيَسِّرُ فَهمَه، إلا القيامُ به في جوفِ الليل”. (15)
وبالجُملةِ -أيها المؤمنون- ” فلَقَد كان القرآنُ هو مِحْوَرُ حياةِ السلف، ومادةُ حياةِ قلوبِهم، يحرصون عليه أَكْثرَ مِن حِرصِهم على تحصيلِ الطعامِ والشرابِ والراحة، ولِمَ لا! وهم يُدركون بأنَّ الحياةَ الحقيقيةَ هي حياةُ القلب”. (16)
فإنْ أَردْنا ذوقَ حلاوةِ القرآنِ كما ذاقوها، فَلْنَسِرْ على طريقتِهم، التي أَشَرْنا إلى بعضِ معالمِها.
اللهم كما مَننتَ على مَن شِئتَ مِن عبادِك بِلذّةِ مُناجاتِك بتلاوةِ كتابِك، فامْنُن علينا بمنِّك وكرمِك، واجعلنا مِن أهلِ القرآن، الذين هم أهلُك وخاصّتُك، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
______________________________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/741رقم 2040 وقال ( صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) . وابن أبي شيبة 6/125برقم 30008.
(2) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص21.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/413 برقم 3438.
(4) صحيح البخاري 24/410.
(5) أخرجه ابن ماجه 1/74 رقم 64 والتاريخ الكبير للبخاري 2/221 وسنن البيهقي الكبرى 2/49 رقم 5498 والطبراني في المعجم الكبير 2/225 رقم 1656 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/16 رقم 52
(6) وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد r فنتعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزجرها، وما ينبغي أن يقف عليه منها، ثم رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين خاتمته ما يدري أمره ولا زجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده، فينثره نثر الدقل ). أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/403 والبيهقي في السنن الكبرى 3/120 رقم 5073 والحاكم في المستدرك 1/91 رقم 101 وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولا علة له ووافقه الذهبي.
(7) انظر عظمة القرآن، مبحث ( فضائل العمل بالقرآن ) ص496.
(8) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/4.
(9) الجامع لأحكام القرآن 1/30 .
(10) الزهد والرقائق لابن المبارك ت أحمد فريد ج6/ 610 رقم 742 ط دار المعراج
(11) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 8/305.
(12) في ظلال القرآن 1/261.
(13) مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر ص131 .
(14) مختصر قيام الليل ص132
(15) مقدمة أضواء البيان 1/4.
(16) تحقيق الوصال بين القلب والقرآن ص91.