صفية محمد الحافظ فتى

إذاعة القرآن الكريم… حتى لا ننسى كتاب الله / صفية محمد الحافظ فتى

مما لاشك فيه أن شعبنا الكريم ولد مع القرآن العظيم وعلومه وكان هو اللبنة الأولى والأساسية في التربية للنشء ولاسيما للذكور.

فالأب أو ولي الأمر هدفه الأول منصب على حفظ ولده للقرآن ولو كلفه ذلك المال الكثير والجهد الكبير… وربما أعطى في ذلك حلوبه ومركوبه. كما اعتنى أجدادنا الكرام بالقرآن الكريم حفظا وتجويدا ورسما وتفسيرا جيلا بعد جيل فأوصلوه لنا طريا محفوظا بعناية الله تعالى.

أما الإناث فقد كان فيهن الحافظات العالمات والمعلمات اللاتي تخرج علي أيدهن فطاحلة العلماء ولكن السواد الأعظم من النساء اكتفى ذووهن عفا الله عنهم بتعليمهن بعض السور للصلاة وللتعوذ فقط وذلك لبلوغ ظاهرة التبلاح آنذاك أوجها لكي تكبر البنت فتكون أما في أسرع وقت ممكن وتسقط حضانتها عن الأبوين.

وقد بدأت ظاهرة التبلاح تختفي تدريجيا مع ظهور وانتشار المدارس النظامية حيث أقبل عليها الذكور والإناث على تفاوت في الإقبال في بداية الأمر، وقد قلل ذلك من التفرغ للقرآن وحفظه إلى حد ما رغم أن نسبة لا يستهان بها بقيت لا تنخرط في سلك المدارس النظامية إلا بعد حفظه تماما. ومع ظهور المدارس المسائية الحرة والأساتذة والمعلمون المنزليون لم يبق للمرابط ولا المرابطة وقت رغم عدم توفرهم بالشكل الكافي أصلا وكادت دراسة القرآن أن تختفي في العاصمة بالنسبة للصغار والمراهقين على الأقل، لولا وجود محاظر قليلة متفرقة حدت من ذلك.

وانتبه بعض أولياء الأمور لهذه الوضعية الخطرة فأرسلوا أولادهم للقرى الداخلية لعلهم ينهلون من هذا الكوثر العظيم وتشبث بعضهم وليس بقليل بالمرابط يزور الأولاد في الوقت المتبقي عن المدرسة والمعلم والراحة الضرورية والتلفزيون بمسلسلاته وأفلامه الكرتونية وربما يكون للمرابط بيت في الدار مع راتبه كعامل في البيت ولكنه في نظري يشبه تلك الكتب والمجلدات النفيسة التي تتزين بها صالونات بعض طبقاتنا ولا تجد لها قارئا ولا نافض غبار حتى، اللهم إلا إذا كان عامل النظافة يتفقدها من حين لآخر.

ويعتبر ظهور الكثير من البرامج المهتمة بتصحيح التلاوة وتعليم التجويد في بعض القنوات عاملا أيقظ بعض الأوساط من غفلتها فظهرت المدارس والمحاظر القرآنية وبرز بها الجانب النسوي بشكل واضح فأقبلت نسبة معتبرة من النساء من كل حدب وصوب ومن مستويات عمرية مختلفة علي تلك المعاهد والمدارس ليدرسن ويتدارسن كلام الله بالروايات الصحيحة المتصلة السند إلى نبينا الكريم.

وظل ذلك الإقبال محدودا نوعا ما إلى أن ظهرت إذاعة القرآن الكريم و التي كان لها طعمها الخاص جزى الله خير الجزاء من أنشأها والعاملين عليها فقد دخلت البيوت والمكاتب والأسواق بدون استئذان فرحب بها أيما ترحيب وحدث ولا حرج عن تلك الصحوة أو الثورة سمها ما شئت التي نتجت عنها فقفزت بالمجتمع في مجال القرآن الكريم وعلومه قفزة لم نجد لها نظيرا. ومن الأهمية بمكان الإشادة بهذا العمل الجبار والإشارة إلى ضرورة مواصلته حرصا على خلق مجتمع متمسك بكتاب الله وسنة رسوله.

لقد قوبلت هذه الصحوة بالترحيب التام فوصل صداها للقرى الداخلية فازدادت المحاظر وأنشئت المعاهد وقلت الهرذمة التي كانت متفشية لدى كثير من المحاظر والمتمثلة في حفظ القرآن أو قراءته بسرعة دون مراعاة أحكام التجويد. إن الحديث عن إذاعة القرآن الكريم وما تبثه من برامج رائعة وتلاوات خاشعة لا تحيط به هذه الأسطر القليلة ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله و بما أن برنامج محظرة التلاوة مثلا هو بيت القصيد عندي فسأتحدث عن بعض الثمار التي اقتطفت منه.

لقد بين شيوخنا وقراؤنا الكرام من خلال هذا البرنامج فضل كتاب الله وفضل حملته وأنهم أهل الله وخاصته وأي شرف بعد هذا يرتجى، كما بينوا وأن تعليم القرآن وبثه في الصدور من الجهاد، وحثوا على تعلم علم التجويد وبينوا أنه من اشرف العلوم لتعلقه بأشرف الكتب، ونادوا بأصوات عالية بوجوب التجويد للقارئ ومثلوا بما قاله الشيخ الجزري رحمه الله في منظومته:

والأخذ بالتجويد حتم لازم
من لم يجود القرآن آثم

ويقول محمد مولود بن أحمد فال آد رحمه الله:

وقادر على الأدا إن تركه
يأثم ويحرم أجره والبركه

فلقد علموا وبينوا لنا أحكام التجويد وأوضحوا مخارج الحروف وصفاتها وبينوا أحكام المد وأقسامه ومتى يكون التوسط والإشباع وما هي مواضع الغنة إلى غير ذلك من الأحكام كما أرشدوا إلى تدبر القرآن الكريم وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والوقوف عند حدوده، فطرق الأسماع صوتهم ليستقر في القلوب فهبت الأبدان عن الفرش وارتفعت الهمم وأقبل الناس على المحاظر والمدارس بشكل منقطع النظير ولافت للأنظار وخصصت مدارس قرآنية للصغار تتلاءم مع النظام المدرسي وكثرت الأسئلة والاستفسارات على القراء وازدحمت خطوط الإذاعة بالمتصلين وتبرع الشيوخ الكرام بإعطاء أرقام هواتفهم الشخصية لمن يريد حكما أوحل استشكال أو تصحيح تلاوة. ولقد صححوا تلاوة وبينوا أحكام أكثر من ثلثي القرآن حتى الآن ودرسوا الكثير من المتون من خلال هذه المحظرة الهوائية أو الفضائية إن صح التعبير. كما أن بعض الشيوخ الأكارم فتح مكتبا خاصا لتصحيح التلاوة عبر الهاتف طيلة أيام الدوام على غرار برامجه في الإذاعة ومحضرته القائمة جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.

وقد استفادت سوقنا كذلك من هذه الصحوة المباركة حيث كثرا لإقبال على المكتبات لاقتناء مصاحف التجويد والكتب المعلمة للتجويد مثل شروح تحفة الأطفال للجمزوري والتي نفدت بعض طبعاتها من السوق لكثرة الإقبال على شرائها والدرر اللوامع في مقرئ الإمام نافع لابن بري وغيره كما كثر الإقبال على شراء الأجهزة الإذاعية والهواتف المحمولة التي تستقبل البث الإذاعي وأشرطة التلاوة. إنها فعلا محظرة على الهواء لا تحتاج سفرا ولا جهدا ولا وقتا محددا فقد تتابع برنامجك وأنت في مكتبك وفي سيارتك وتحت لحافك في البيت وربما و أنت تشرب الشاي وتأكل الثريد، وقد تتابعه ربة البيت وهي في مطبخها وبدأ المستمعون يتحسنون في الأداء تحسنا ملموسا فيعطون الحروف حقها ومستحقها، ورجعت صفة الهمس للفاء والتي طالما سرقت منه ظلما وعدوانا.

وانطلاقا من هذا البرنامج فإن الشيوخ الكرام أذنوا لبعض المستمعين في التدريس رضاء عن أدائهم بل أوجبوه على بعضهم أحيانا فأصبحت ترى من تدرس زميلاتها في العمل ومن تدرس صديقاتها في البيت وربما في السوق. وتبدلت أحاديث نساء المدينة شيئا فشيئا بذكر القرآن وعلومه عن الموضة وملحقاتها والأحاديث الساقطة ومن إيجابيات هذه الإذاعة الموفقة أنك تنام على كلام الله وتستيقظ عليه ولسان حالك ينشد.

وآخر شيء أنت في كل هجعة
وأول شيء أنت وقت هبوبي..

ومن آثار هذه الصحوة المباركة بقيادة الإذاعة الوطنية ذلك البث المباشر لصلاة التهجد طيلة شهر رمضان المنصرم ولأول مرة في تاريخ البلاد، ليلامس القلوب و يذرف العيون في ساعات السحر الصافية قرآن يتلى بأصوات عذبة ندية.

حقا إن تلاوة القرآن الكريم عبادة راقية ونعمة من نعم الله الوافية وجب علينا شكرها وعدم كفرها وحبذا لو وجدنا سبيلا لتقوية سريعة لبث هذه الإذاعة عموما فهناك قرى كثيرة لا تسمعها إلا همسا وهي في غاية التعطش لسماع صوت إذاعة القرآن الكريم واضحا بدون تشويش ولكن ليس لها من الأمر إلا أن تحسد بنات عمها من القرى الأخرى المستفيدة من هذا البث والحسد هنا بمعنى الغبطة طبعا فالمؤمل من ولاة الأمر تحقيق هذا المطلب فالكريم متمم كما يقال.

والحقيقة التي نود تأكيدها هنا أن صوت إذاعة القرآن الكريم صادف هوى لدي المستمعين بكل أطيافهم وان الواقع الآن يثلج الصدور وتطمئن له النفوس ويبشر بمستقبل راق بالقرآن وعلومه في هذا البلد.

وفي الختام أقول للقارئ الكريم شنف سمعك وعطر فمك بالقرآن العظيم ورتله ترتيلا كما أمرك خالقك ورازقك فمن أحب شيئا أكثر من ذكره بقلبه. ولهذا لم يكن شيء ألذ للمؤمنين من سماع القرآن وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال لي رسول الله اقرأ علي، قلت أقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه من أول سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال حسبك الآن فرفعت رأسي فإذا عيناه تذرفان. وكان أصحاب رسول الله إذا اجتمعوا أمروا قارئا أن يقرأ وهم يستمعون ومر رسول الله بأبي موسى رضي الله عنه وهو يصلي من الليل فأعجبته قراءته فوقف واستمع لها فلما غدا على رسول الله قال لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فوقفت واستمعت لقراءتك فقال لو أعلم أنك كنت تسمع لحبرته لك تحبيرا. فالله نرجو أن يكون القرآن العظيم شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

الفقيرة إلى الله صفية محمد الحافظ فتى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق