أدب وثقافةأنشطة ومقالات

ساعة كألف سنة.. / حماد أحمد


ساعة كألف سنة.. / حماد أحمد 

في مطار أتاتورك الدولي بالعاصمة التركية اسطنبول ، كان الوقت أصيلا وكنت أستعد لأخذ طائرتي ، بعد يوم من العمل الشاق ، وبإحدى قاعات المطار، اخترت مكانا قصياً علي أحظى بقسط، ولو يسير، من الراحة..

يجلس إلى جانبي رجل ذو ملامح وسمات شرق أًوسطية، كما توحى بذلك سحنته ولهجته أيضاً، بعدَ أن تبادلنا التحية وعرفتُه على نفسي بإيجاز..تهلل وجهُه ودعاني للعشاء معه، ودون كبير تحفظٍ، قبلت تحتَ ضغط إصراره ، وقلت في نفسي : إنه الكرم العربي .. وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث ، ومما زاد إعجابي به عدم سؤاله إن كنتُ ابريطانيا كما جرت العادة مع أغلب من ألتقي بهم من المشارقة، حينما أقول لهم أنا موريتاني ، بل على عكس ذلك، كان يعرف أدق تفاصيل الحياة عن بلدي ، كحرب الصحراء ، والرئيس المختار ولد داداه ، وغير ذلك من الأمور التي لم أعاصرها، وأجهل الكثير من حيثياتها.. _كمُ المعلومات الكبير الذي بهرني به، دفعني لا إرادياً، لسؤاله عن جنسيته، ولكم أن تتصوروا قوة الصدمة التي انتابتني، حين قال لي مسترسلاً: “أنا إسرائلي، ومن أصل مغربي وقد درستُ وترعرعتُ في مدينة الدار البيضاء، و هاجرت بداية الثمانينات، أستاذٌ حاليا لمادة الحضارات في الجامعة العبرية في تلابيب” كانَ الذهول بادٍ عليَ، وهو يواصل حديثه قائلا “كنتُ أحضر مؤتمرا علميا في كردستان العراق، والآن في طريقي إلى إسرائيل”*..

لاحظتُ أن العرقَ بدأ يتصببُ من جبيني..رغم قوة درجة التكييف، فكل شيء كان يمكنُ أن يخطر ببالي أو أفكر فيه سوى أن تجمعني مائدةٌ واحدة ومجلسٌ مع إسرائيلي…

بدون أي بروتوكول، انسحبتُ معتذرا بأسلوب فجٍ عن مشاركته المائدة وهرعتُ إلى مكانٍ آخر من القاعة، وأنا تحت تأثير المشهد..ولا أكتمكم أني لم أفكر ساعتها إلا في ما آلت إليه بلاد الرافدين …يهود يسرحون ويمرحون في كلٍ شبر منها.. _قفز إلى ذهني بيتان للشاعر الكبير نزار قباني من قصيدته “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي ” حين يقول:_

*- كيف أهواكِ حينَ حولَ سريري ….يتمشّى اليهودُ والطاعونُ ؟*

*- كيف أهواكِ ؟ والحمى مُستباحٌ …..هل من السهل أن يحبَّ السجينُ ؟*

خواطرُ بالجملة تواردت على مخيلتي، فقد كنتُ أعتقد أن البيتين مجردُ صورة شعرية لشاعر خصب المخيلة، فإذا بهما واقعاً مكشوفاً لا غبار علية..نعم للأسف تغلغل اليهود في مفاصل الأرض العربية .. نعم هذه هي حقيقة العرب في تجليات الزمن الرديء..

لم أستطع أن أمحوَ من ذهني صورة اليهودي…ولا كوني كنتُ سآكلُ من موائد اللئام .. بدأ الليل يرخي سدوله، وشاهدتُ غروب شمس اسطنبول من النوافذ الزجاجية المقابلة… ، علي أنسى الوجع، بالمشهد الجميل، حثُ آخر شفقٍ يودعُ شواطئ البوسفور… خرجت من مكاني أبحث عن مصلى، بعدَ أنْ انتظرت سماعَ أذانٍ في بلد مازال وفياً لعلمانيته المتجذرة، رغم محاولة التيار الإسلامي المتصدر للمشهد السياسي خلقَ جوٍ يوحي بأن البلد بدأ يحنُ إلى أصوله وتاريخه الإسلامي أيام السلاطين… حاولت معرفة مكان المصلى ، وقد وجدت صعوبة في ذلك، إذ لا أفقه لغة الأتراك المتعصبين لها، ولا هم طليقو ألسنة بالإنجليزية ..والمدينة لم تعد مدينة المآذن كما كانت تشتهرُ بذلك …حاولتُ الاستدلال باللوحات الإرشادية المتباعدة..عموما يرجعُ لها الفضل في إيصالي المسجد… *غسلتُ بالصلاة ذاكرتي مما علق بها من أدران مجالسة اليهودي الخبيث..عدتٌ إلى مقعدي في القاعة ، وأنا أستعد لمواصلة رحلتي نحو الوجهة القادمة…*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق