د. الشيخ الطلبه

تكريس مفهوم الندية / د. الشيخ الطلبة

ثلاثتهم كانوا مؤهلين بحق لسبر أغوار الفن الذي كلفوا بتدريسه بكل أهلية وكفاءة، أصغرهم سنا هو ذلك “الشيخ” الفتى الذي لا يكبرني بكثير، كنا ننتمي جميعا إلى تلك المدرسة الأهلية العتيقة والتي تمثل كل شيء بالنسبة لنا، نقوم أدنى من ثلثي الليل حينما لا ننام، وحين نركن للهجوع فإن صوت عود الثقاب لشعل قنديل الدرس في غسق الليل يكفي لجعلنا نستيقظ فورا وبشكل كامل دون تدريج.

لاشيء يحتاجه التلميذ داخل هذه المؤسسة الأهلية العتيقة سوى الجد والمثابرة لشحن الذاكرة بالتراث العلمي المتراكم، وحفظُ المتون بشروحها وحواشيها في نظر الشيوخ هو السبيلُ لتحقيق هذا الهدف النبيل ، تسير الأمور بشكل طبيعي جدا، ويبدو الوضع رتيبا ومنتظما بحيث لا يكاد الشعور بالضجر يفارقك رغم إحساسك بالاعتزاز لأنك تشعر باستثمار الوقت في اقتناص وحصد الفوائد العلمية النفيسة كل يوم بل كل ساعة ولحظة، فضلا عن كونك تعيش تجربة تمنحك الكثير وتجعلك تصحب أماجد جاؤوا من مختلف الأماكن لشيء واحد هو الاستزادة من العلوم، إنه فعلا لمقصد في غاية النبل.

وفي هذه الأجواء لا تكاد تفقد من يمدك بالدعم النفسي والتشجيع بذكر مسيرة أعلام بلغوا أسمى الغايات ونالوا الخلود رغم موتهم، فلك أن تكون مثلهم أو أعلى شأنا، هكذا يشحذون الهمم بهذه الطريقة وشعارهم قول الشاعر:

تغربْ عن الأوطان في طلب العُلا وسافرْ ففي الأسفار خمسُ فوائد
تفــــرُجُ همٍ، واكتسابُ معيشـــــــة وعلم، وآدابٌ، وصُحبةُ مــــاجد

في أول يوم لي في هذا المشهد أحسست كأنني غريب الوجه واليد واللسان، لكن شيئا واحدا جعلني أشعر بالثقة بالنفس وذلك حين دعاني أكبر مشائخي الثلاثة واضعا أمامي خيارا من ثلاثة في إطار تحديد العلم الذي سأدرسه، فإما أن أختار مجال الفقه أو النحو أو اللغة، وبدون تردد اخترت الأوسط وهو النحو لأنه العلم الذي كنت مولعا به إلى حد الهوس، ربما السبب في ذلك أنه يمنحني آفاقا أوسع للتدبر والتفكير وأتلمس فيه حرية على نحو ما نظرا لعدم قدسيته فهو بذلك يتناسب مع ميول المشاغبين من أمثالي في تلك السن، فتقرر إذن بحكم ميولي وقناعتي الشخصية أن أدرس علم النحو، أحسست بالارتياح لأني اخترت ما يناسبني وصرحت للشيخ الأكبر بذلك فارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه، تلك الابتسامة التي استوقفتني لكنني لم أعتن كثيرا بفحواها كما لم أهتم بحل شفرات تلك النظرة التي رمقني بها، لعله خير قلت تلك العبارة بكل أمل ورجاء.

انتهى دور الشيخ الكبير وكان أوسطهم سنا هو المكلف بتدريسي لكنه اختار لي صديقا بليدا حتى النخاع، امتُحنت ولم يمتحنْ، كان ذلك الامتحان من أجل تحديد المستوى وقرأ لي الشيخ الأوسط من ذاكرته هذين البيتين:
إن السيادة في اثنتين فلا تكـــــــن يا ابن المشايخ فيهما بالزاهد
حملُِ المشقة واحتمال أذى الورى ليس المشمر للـعلا كالقاعــد

طلب مني الشيخ إعراب كلمة “حملُِ” التي بدأ بها الشطر الأول من البيت الثاني، في حالتي الرفع والجر، فأعربتها خبرا لمبتدإ محذوف في حالة الرفع، وبدلا من “اثنتين” في حالة الجر، فكان حقي دراسة ألفية ابن مالك لكن شيخي الأكبر قرر أن أدرس كتاب ملحة الإعراب من باب الاحتياط لضبط النحو كما يلزم.

بدأت صورة علاقتي بمشائخي الثلاثة تتبلور على نحو متباين؛ فكنت أخفض الجناح ـ عن إعجاب ـ للشيخ الأسن الذي انتهى دوره وتوقف عند ذلك الحد، وأحترم الأوسط الذي هو معلمي المباشر، وأتشاجر بالدوام مع شيخي الأصغر الذي يكبرني بقليل، ومع أنني كنت أسلم لهذا الأخير علو كعبه ومعرفته التراكمية لكنني رغم ذلك كنت أنظر إليه بنوع من الندية، بل ربما جادلته أمام تلامذته فيجن جنونه، وأستفزه عن قصد وعن غير قصد.

كان دور شيخي الأصغر مقتصرا على ما يعرف بـ “التكرار” وهو إعادة الشرح الذي تلقيته من الشيخ الأوسط بالحرف الواحد، كان يعيد لي كلام الشيخ في الدرس الرئيسي بطريقة مملة وربما أكملت له ما يقول على نحو تهكمي؛ طالما كرهت هذا النوع من التلقين وتصورت أنهم بهذا يريدون فتح عقلي وتعبئته قسرا.

ضُحىً يجلس شيخي الأوسط الوقور مجلس الدرس ورغم أنه شاب يافع إلا أنه مهاب بما فيه الكفاية، يزن كلامه بميزان من ذهب ويتلقى الاستشكالات التي تثار أمامه بكل تجاوب وتأتي إجاباته شافية للغليل، وفي كل يوم يجتمع الطلاب حوله بألواح مختلفة في مجالات متباينة كالفقه وأصوله والسيرة والنحو واللغة والمنطق وأنساب العرب وغيرها….

لا يكاد الشيخ الأوسط ينصرف حتى يجلس الشيخ الصغير مكانه ويبدأ بإعادة كل ما قاله في حلقة الدرس، بل ربما قلده حتى في حركاته وسكناته، وربما حاول أن يضيف جديدا وحينها يجدني بالمرصاد، وأفتح عليه وابلا من النقد إلى أن تفاقمت الأمور .

تطور الخلاف بيني وبين الشيخ الأصغر وكان يترنم بالشعر بنشوة عارمة وربما اختار أبياتا خاصة تعبر عن واقع معين، وحادثة عين وقعت بيني وبينه، وما إن يصمت حتى آخذ الدور فأترنم أنا أيضا بأبيات مناهضة أنتقيها بعناية، كقول العلامة حرمة بن عبد الجليل:

هنيئا لشيخي قولـــه فيَ والفعــــلُ وما نال من عرضي وزرعي له حلُ
وإني امرؤ عن هفوة الشيخ إن هفا صفـــوحٌ على أني لما قاله أهــــــــل

اعتدت إذن أن أعترض على ما يقوله الشيخ الصغير وأصبح حديثي معه وإفحامي له أحيانا محل تفكه وتندر في بيوتات التلاميذ، وربما خالفته في أمور تربوية تتعلق بالدرس فكان يراهن على الحفظ ويدعو إليه وكنت أعتبر الفهم والاستيعاب أهم بكثير، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي تجاوزت فيه معه كل الخطوط الحمراء فكان اعتراضي صارخا على كل ما قيل في مجلسه ذلك، بل بلغ السيل مداه حين صرحت بخطإ بيت من المتن الذي كنت أدرسه وهو: “ملحة الإعراب في النحو” للحريري البصري صاحب المقامات الشهير، في ذلك اليوم الذي لا أنساه جلس شيخنا الصغير مجلس الدرس ودعاني للتعقل والانضباط، ثم قال:
يقول الحريري البصري رحمه الله في ملحة الإعراب:

وكل ما يصلح فيه أمس فإنه ماض بغير لبس

ومعنى هذا البيت ـ والكلام له ـ أن الفعل إذا صح تقدير “أمس” بعده فهو “فعل ماض” مثل: خرجت أمس، وقرأت أمس.

لم يكد ينهي كلامه حتى بادرت بمواجهته بأن هذا الكلام غير سليم البتة، وأن مضمون هذا البيت خاطئ خاطئ، تفاجأ الشيخ الصغير تماما لأنني هذه المرة لم أعترض عليه هو كالعادة وإنما اعترضت على الحريري البصري نفسه، بدأ في لومي قائلا: من أين لك أن تنتقد كلام الحريري البصري فمن أنت ومن هو؟

ثم إن المشائخ الذين يدرسونك درسوا هذا المتن ومروا على هذا البيت ولم ينتقدوه فكيف تكون أنت أدق منهم ملاحظة أو أصوب منهم رأيا؟

حينها أصررت على رأيي وقلت له إذا كانت “كل” صيغة دالة على العموم وقول المؤلف “كل ما يصلح فيه أمس فإنه ماض” دال على أن كل فعل يمكن تقدير “أمس” بعده هو “فعل ماض” فما رأيك بقول القائل”كنت أتكلم أمس”
هل “أتكلم” فعل ماض؟
و”لم أتحدث أمس”
هل “أتحدث” فعل ماض؟

ثم أردفت بالقول: إن الجملة التي ترد فيها أمس تكون ماضية بخلاف المفرد المقابل للجملة ومحل هذا إذا تكلمنا عن الزمن المكتنف للجملة في مجال إعراب الجمل.

أحجم شيخي الأصغر عن الكلام وأوقف الدرس، حينها بدأ النقاش يسود المجلس ولكنه هذه المرة جدل بين الجميع، استغرب الكل ما قلته، وحتى أولئك الذين عرفوا بالتعصب الشديد للتراث العلمي المتراكم لم يستطيعوا إنكار حجتي، وغرقوا في تأمل ما سمعوه.

إنه النحو العلم الرائع الممتع الذي تبدو الحجج فيه أكثر إقناعا
كانت تلك آخر حصة لي مع شيخي الذي أصبح زميلي فيما بعد وجمعتنا منابر متعددة وتوطدت صداقتنا في ما بعد إلى أن تكرس في ذهنه مفهوم الندية.

*تحضير أطروحة الدكتوراه في علم اللسانيات
المغرب/ فاس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق