الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

علائق بين شعراء / أ. السيد أحمدو الطلبة

لم تزل بين الشعراء والأدباء منذ الزمن القديم علائق متنوعة، من تلمذة أو صداقة أو مباينة وعداوة …الخ ، ولم يخلُ ذلك كله من طرافة وفائدة ..

من أشهر علائق التلمذة الشعريّة بين كبار الشعراء من الأقدمين، علاقة البحتري بشيخه أبي تمام الذي يقول عنه بلسان أشبه بلسان التصوّف إنه لائذ به، نسيمه يركد عند هوائه، وأرضه تنخفض عند سمائه، وإنه ما أكل الخبز إلا به ..

وقد كانت بداية العلاقة بينهما في مجلس أبي سعيد ممدوح أبي تمام في قصة لا تخلو من غرابة ..

ومن ذلك مهيار الديلمي تلميذ الشريف الرضي، كان مجوسيا فأسلم على يده وتخرج عليه في الشعر، ومن قرأ شعره يتبيّن تأثرَه بالرضي، فهو في أسلوبه البالغ العذوبة والرقة ينحو منحى الشريف الرضي ويدرج مدارجه:

 

يا نسيم الريح من كاظمة ….. شدّما هجت البكا والبُرَحا .

 

الصَّبا إن كان لا بد الصبا …. إنها كانت لقلبي أروحا .

 

يا نداماي بسلع، هل أرى …. ذلك المَغْبَقَ والمُصطبَحا؟

 

اذكرونا ذكْرَنا عهدكمُ …. رُبَّ ذكرى قرَّبَتْ مَنْ نَزَحا .

 

وارحموا صبا إذا غنى بكم …. شرب الدمع وألقى القدحا .

 

وقد رثى مهيار أستاذَه الرضي بقصيدته التي يقول فيها:

 

بكَر النديّ فقال أودى خيرها

إن كان يصدق فالرضيُّ هو الردي !

 

ومن ذلك الباب سِلم الخاسر الذي كان تلميذا لبشار بن برد، ووجد عليه أستاذُه عندما سرق معنى من معانيه ووضعه في قالب شعري أجملَ، فهجَرَه ومشت الشفعاء بينهما فلم يقبل بشار وساطة الصلح إلا بعدما جلَد تلميذه عددا من السياط ..

ومن هذا الباب سلسلة من الشعراء ذكرها صاحب الأغاني، وهي أن كثيّر كان راوية جميل وجميل كان راوية هدبة بن الخشرم وهدبة كان راوية الحطيئة والحطيئة راوية زهير بن أبي سُلمى ..

وفي بعض الأحيان يفوق التلميذ شيخَه في الصنعة الشعرية أو على الأقل يزاحمه في المرتبة، فقد كثرالاختلاف في البحتري وأستاذه أبي تمام أيُّهما أشعر حتى صُنِّف في ذلك، ومن المشهور قول المعري حاكما في ذلك الخلاف إن المتنبي وأبا تمام حكيمان وإنماالشاعر البحتري، وكذلك كثيّر الذي كان تلميذا لجميل يرى بعض الناقدين البصراء أنه أشعر من أستاذه ..

أما علاقة المباينة والعداوة بين الشعراء فلم يخلُ منها عصر من العصور، بدءا من الفرزدق وجرير الذين تهاجيا أربعين سنة ومن الغريب أن جريرا لما نُعِيَ له الفرزدق بكى واستدل بموت خصمه الألدّ على قرب موته هو، وكان صادقا في فراسته فلم يبق بعده إلا شهورا، ومن تلك العلاقات غير الودّية علاقة بن ميادة والحكَم الخضري التي أضرم لهيبَها الحسدُ على ما رزق الله من المواهب، ومن ذلك الباب علاقة بشار بن برد وحمّاد عجرد الذين كان بينهما أفحش الهجو وأنذله، واللائحة تطول بطول التاريخ …

ومن طريف ما يُحكى من ماجريات  الشعراء أن أحد شعراء “بوسوير” من المعاصرين لأبي نواس أغراه بعض المُجّان بهجو أبي نواس “ركّْبوه عليه” وأوهموه أن ذلك خير مدخل للشهرة والتفوق، فأقبل عليه في نديّ من الأنداء وخاطبه قائلا:

 

ألا قل للنواسي ال …. ضعيف الحال والقدر .

خبرنا منك أحوالا …. فلم نحمدك في الخبر .

وما روّعت بالمنظ …. ر لكن رعت بالكدر .

 

وكان هذا الشاعر دميما، فقال له أبو نواس: لا أعرف بم أهجوك ولا بم أصفك وقد سبقني ربي إلى توحُّش صورتك … الخ إلا أن الحاضرين ألحوا على أبي نواس أن يجيب جوابا شعريّا مناسبا للمقام، فقال:

 

بما أهجوك لا أدري …. لساني فيك لا يجري .

إذا فكرت في هجو ….. ك أبقيتُ على شعري .

 

وفي سياق العلائق بين الشعراء أعرّج على الشيخ أحمد بن الحسين المتنبي لأذكر علاقة من علائقه يستغربها من يعرفه شاعرا مغرورا لا يعترف بغير نفسه، هي علاقته بأبي فراس الحمداني، فإن كبرياءه تنحني أمام أبي فراس الذي كان معترفا له بالسبق والتقدم، وكان يتحاماه ولا يجرُؤ على مقاولته، وقد ذكر المحققون من نقلة التاريخ أنه لم يمدحه في شعره -مع أنه مدح من دونه من بني حمدان- تهيُّبا له وإجلالا لا إغفالا ولا إخلالا ..

أما علاقة الصداقة بين الشعراء الذين يجمعهم عصر، فمنها صداقة البحتري مع دعبل الخزاعي، وقد جمع في قطعة شعرية بين رثاء صديقه دعبل وأستاذه أبي تمام عندما بلغه موتهما، منها:

 

قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي

مثوى حبيب يوم مات ودعبل ..الخ

 

ومن ذلك صداقة حميمة كانت تربط الشريف الرضي بالشاعر إبراهيم بن إسماعيل المعروف بالصابئ، ورثاه لما مات بإحدى غرر قصائده:

 

أعلمتَ من حملوا على الأعواد ….. أرأيت كيف خبا ضياء النادي ؟

 

فلما لامه الناس على رثائه لإنسان لا يدين بالإسلام اعتذر لهم بأنه إنما رثى فيه فضله ..

ومن الصداقات المذكورة بين الشعراء الأوائل صداقة مروان بن أبي حفصة وعباد بن شبل الصنعاني، وهي الصداقة التي حالت بين مروان وهجاء صديقه عباد لما سخِر من بغلته “الشهباء” في أبيات يقول ضمنها:

 

أرى الشهباء تخبز إذ غدونا

برجليها وتعجن باليدين .

 

فقال مروان:

 

لعمر أبيك لو غير ابن شبل

هجا الشهباء قطّعه الهجاء .

 

ولكن عرضه عندي وعرضي

إذا ميّلتُ بينهما سواء .

 

ومن غريب صداقات الشعراء صداقة الكميت والطّرمّاح مع شدة التنافر المذهبيّ بينهما حيث كان الكميت شيعيا متعصبا وكان الطرماح خارجيا متشددا، ومع ذلك فقد ذكر المؤرخون أنه كان بينهما من المودة ما لم يكن بين اثنين ..

وهذا حديث يطول إذا لم نكبح من جماح القلم، لكن قبل أن نطوي الصفحة نُلِمّ ببعض النماذج الشنقيطية من صداقات الشعراء، فمنها صداقة المختار ولد حامد ومحمد بن الداه العلوي، وهي صداقة عجيبة بالنظر لبدايتها التي كانت ذات ليلة في مدينة كولخ، ذلك أن محمدا أرِق في إحدى الليالي فخرج في الشوارع يتنسّم الأرواح والهواء الطلق فقاده السير إلى جماعة من الشناقطة سامرين بفناء متجر وكؤوس الشاي تُدار عليهم، فجلس إليهم وفيهم المختار من غير أن يعرف أحدهما الآخر، فلم يلبث السامرون أن سقطت أذقانهم للنوم، وبقي الشاعران الأديبان يتجاذبان أطراف الأحاديث إلى طلوع الفجر، فسأل أحدُ القوم المختار: من الرجل الذي بت البارحة سميرا له؟ فقال: لا أعرفه ولكن إن كان محمد بن الداه العلوي موجودا في كولخ فإنه هو، وسأل محمدا أحدُ أصحابه قائلا: افتقدناك طول ليل البارحة فأين كنت؟ فقال: سامرتُ رجلا لا أعرف من هو، لكن إن كان المختار ولد حامد في كولخ فإنه هو ..

وهكذا بدأت الصداقة بين الشاعرَين العالمَين ..

ومن ذلك صداقة شاعرين مُجيدين غيبتهُما الآجال في جدّة الشباب ونضارته وقد طار ذكرهما في الخافقين، فرُزِئ بهما الأدب والفضل وسائر المحامد، هما جمال ابن الحسن ومحمدي ولد القاضي رحمهما الله، فقد كانت بينهما صداقة حميمة للغاية بدأت عندما جمعت بينهما ثانويّة البنين في نواكشوط خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، وشاركا في أول باكلوريا في الآداب العربية تُقام في موريتانيا عام 1976 وظلا رفيقي كل درب باستثناء الاتجاهات السياسية التي لم تجمع بينهما مشاربها، وكانت بينهما بعض المساجلات المليحة والطريفة ..

عن عمق تلك الصداقة وبُعد غورها تعبّر قصيدة جمال المؤثرة جدا في رثاء حبيبه محمدي حين فرق بينهما القضاء المحتوم بوفاة محمدي سنة 1982 :

 

أحبيبي مُحَمْدِ لا يجزع النا

سُ، فإني أنا المرَزَّءُ وحدي !

 

وأنا بعدك اليتيمُ، وقد أيْ

قنتُ أني لو مِتُّ يُتِّمتَ بعدي .

 

وسميرُ الأشجان منذ اعتراني

لك فقدٌ، فكيف أحسستَ فقدي ؟!

 

لهفَ نفسي على وداد تنازعْ

نا زمانا من وشيه خيرَ بُرْد .

 

لم يشبه هوى، ولم يستثره

طمع، لا ولم يُنَغّصْ بجحْد .

 

وليال لنا قصار حسان

لم نبعها بليل ميّ ودعد .

 

نتعاطى فيها كؤوس حديث

أين منها كؤوس خمر بشُهْدِ ؟

 

تنفرط عقود الليالي وتتسارع قوافل الأيام لتشهد الحياة مشاهد جديدة وكثيرة، وتبقى رغم ذلك كله مشاهد وأحداث لا تُنسى وإن بعُدت ..

 

فو الله ما أنسى قتيلا رُزِئتُه / بجانب قوسى ما بقيتُ على الأرضِ .

 

على أنها تعفو الكُلومُ، وإنما

نوَكَّل بالأدنى وإن جَلَّ ما يَمضي ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق