الجبال والنَّسيب / ذ. السيد أحمدو الطلبة
الجبال من معالم الأوطان التي لا تَعرِفُ إليها يدُ الغِيَر ولا صروف الليالي سبيلا، يرحل عُمّارُ البلاد في طلب المعاش وتُفَرِّقهم الحوادث أيادي سبا ويستودعونها بلادهم فلا تبرح منها، ولذلك يغبطها المغتربون ويشتاق إليها النازحون، ومن الغريب أنه حيث ذُكِرتْ أسماءُ الجبال في الشعر أكسبه ذكرها رقَّة، ولعل نفحةً ما سرتْ للجبال من أُخُوّتها لجبل أحد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (أحد جبل يحبنا ونحبه) وجبل الطور الذي كان ميقاتَ المكالمة، وقد كان بلال رضي الله عنه أوَّلَ أيام المدينة إذا أخذت منه الحُمّى يشتاق لشامةَ وطفيل من جبال مكة فيرفع عقيرته منشدا:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ….. بواد، وحولي إذخر وجليل ؟
وهل أرِدَنْ يوما مياه مجِنّةٍ ….. وهل يبدونْ لي شامةٌ وطفيل ؟
والشوق للجبال ليس إلا رمزا للشوق لجيرانها، ومن شعر الجبال الذي اقتاد القلوبَ بالأزمّة ما قيل في جبل الريان:
يا حبذا جبل الريان من جبل ….. وحبذا ساكن الريان من كانا .
وحبذا نفحات من يمانية ….. تاتيك من قِبَلِ الريان أحيانا .
ومن رقيقه كذلك قول البحتري في إحدى روائعه متشوقا إلى جيران ثبير:
وما ذِكرُ الأحبة مِن ثبير ….. وبَلْدَحَ غيرُ تضليل الأماني .
نظرتُ إلى طدانَ، فقلتُ ليلى ….. هناك، وأين ليلى من طدانِ ؟
ودون لقائها إيجاف شهر ….. وسبع للمطايا أوثمان .
وقد ذكر في هذه القصيدة سلسة جبال تعترضه في الطريق إلى منازل الأحبة، آخرُها جبل أبان الذي منه تتصوب البلاد ويغني الحاديان بالأوبة:
ولما شرَّقَتْ أعراف سلمى ….. لهنّ، وغرَّبَتْ قنن القنان .
وخلَّفْنا أياسر واردات ….. جنوحا، والأيامن مِن أبان .
تصوبت البلاد بنا إليكم ….. وغنى بالإياب الحاديان .
وقد استخبر الشعراءُ الجبالَ أخبارَ الأحبة، وتمنَّوا لو أضمرتهم ساعةً لعلهم يرون نيران أحبتهم التي تشرف عليها تلك الجبال:
أيا جبلي نجد أبينا سقيتما ….. متى زالت الأظعان يا جبلان ؟
أناديكما شوقا وأعلم أنه ….. وإن طال رجع القول لا تعيان !
نشدتكما أن تضمرانيَ ساعة ….. لعلي أرى النار التي تريان .
ولا شك أن الجبال في الشعر تفارقها صخريَّتُها وكثافتها وتخلع على الشعر رقّة وتُكسبه قربا من القلوب، فما أبعد جبل التوباذ من الكثافة حين يقول عنه الشاعر القديم:
وأجهشتُ للتوباذ حين رأيته ….. وهلل للرحمن حين رآني .
فقلت له أين الذين عهدتهم ….. حواليك في أمن وخفض زمان ؟
فقال مضوا واستودعوني بلادهم ….. ومن ذا الذي يبقى على الحَدَثان .
وحين يقول عنه أحمد شوقي:
جبل التوباذ حياك الحيا ….. وسقى الله صبانا ورعى
فيك ناغينا الهوى في مهده ….. ورضعناه فكنت المرضعا
وحدونا الشمس في مغربها ….. وبكرنا فسبقنا المطلعا
وعلى سفحك عشنا زمنا ….. ورعينا غنم الأهل معا
هذه الربوة كانت ملعبا ….. لشبابينا وكانت مرتعا ……
وشكى بعض الشعراء من الجبال ومن حُجُبها الكثيفة التي تحرمه أنفاسَ الصَّبا، فقَرَح بشكواه قلب الخليّ وبَرّحَ بالشجيّ:
أيا جبلي نعمانَ بالله خليا ….. نسيم الصبا يخلُصْ إليَّ نسيمها .
أجِدْ بردها أو تشف مني حرارة ….. على كبد لم يبق إلا صميمها .
فإن الصبا ريح إذا ما تنسَّمَتْ ….. على نفس مهموم تجَلَّتْ همومها .
ونلمس مع ذكر الجبال هذه الرقة حتى في الشعر الذي ليس نسيبا كقول امرئ القيس الكندي في معرض هجوه لخالد النبهاني وثنائه على قبيلة ثعل التي أجارته:
أبت أجأ أن تسلم العام جارها ….. فمن شاء فلينهض لها مِن مقاتل .
فهذا البيت مما نبهتنا مجالس درس شيخنا _حفظه الله_ على رقّته البالغة، وقد كنا نمر عليه في ديوان الستة غافلين عنه، وللحسن مواقعُ من الشعر خفية ..
وقد تركتُ في هذا الحديث ذكر جبل (قاسيون) المشرف على دمشق لمحبي نزار من ندمائنا القائلين فيه بلسان حالهم:
سقوني وقالوا لا تغنِّ، ولو سقوا ….. جبال حنين ما سقوني لغنَّتِ !