التجارة والشعر / ذ. السيد أحمدو الطلبة
قد تكون العلاقة بين الشعر والتجارة أمرا مستغرَبا بادئَ الرأي، لكن الواقع أنها علاقة بدأت منذ العصر الجاهلي حين كانت الأسواق التجارية العربية ملتقى لفحول الشعراء، كسوق ذي المجاز وسوق عكاظ وسوق مجنّة …. فبقدر ماكانت ساحةً لعَرْض سِلَع البائعين كانت مجالا لتسويق الشعر الذي كان حينئذ في صدارة الأمور التي يهتم بها الفتى العربي ..
وقد كان النابغة الذبياني ياتي سوق عكاظ فتُبنى له قبة من أدم ويلتقي الشعراء واحدا تلو الآخر يعرضون عليه أشعارهم، فيُقوّم لهم وينقد ويُبَصِّر بالطريق ..
ولعل مما يلمح لعلاقة الشعر بالتجارة في تلك الحقبة بيته الذي سار مسير الأمثال:
فإن الشعر ليس له مَرَدٌّ / إذا ورد المياهَ به التِّجارُ .
وتوطّدت العلاقة بين التجّار والخمريِّين من الشعراء، ولذلك آثار منتشرة في أشعارهم ..
ومهما تكن العلاقة بين التجارة والشعر فإنه من الأحوال النادرة أن يكون الشاعر تاجرا، بل من الغالب في الأدباء أن لا يكونوا محظوظين في وسائل تحصيل المال، فهنالك ما يُعرَف بحُرفة الأدب يُعاني منها جُلُّهم إن لم يكن كلُّهم، وقديما قال الشاعر:
رضينا قسمة الرحمن فينا / لنا أدب، وللثقفيِّ مالُ .
إلا أنهم في سالف العصور كانوا يجدون لشعرهم آذانا واعية وأكفا سخية، تخرجهم ولو لحين عن المعاناة، أما في العصور الأخيرة فكل ذلك معدوم إلا من رحم ربك، ومن اللطائف ما قاله أحد فحول الشعراء الشناقطة المعاصرين من كون الشاعر إذا لم يقابَل جيِّدُ شعره بالجوائز السنِيَّة فلا أقل من أن يقال له: “هحّْ” ..
ومن كبار الشعراء الذين امتهنوا التجارة في بعض مراحل حياتهم أبو العتاهية، فقد كان يبيع جِرَرَ الفخار في سوق الكوفة، ثم امتهن الشعر بعد ذلك وبرَع فيه ..
وفي العصور الأخيرة وبعيدا بكل المقاييس من أبي العتاهية وأضرابه …..
كان للشيخ الأجلّ المختار ولد حامد -رحمه الله- دكان في مدينة كولخ السنغالية برهة من الزمن، لكنّ تجارة المختار التي لم يَجنِ منها الربح الدنيويّ المنشود، جنى منها رُوّاد الأدب ربحا لا يُقَدّر بقيمة، لأن تلك الحقبة من حياة المختار أتحفت الساحة الأدبية بموضوع يُعتبَر إبداعا أدبيا إذ لا يُعرف -والله أعلم- شاعر تحدث في شعره عن تجربة شخصية في التجارة، وقد سجّل المختار رحمه الله مشاعره خلال تلك الحقبة وقارن أيام التجارة بأيام الحل والترحال على آثار الإبل ورعاتها في الحياة البدويّة، فأجاد ما شاء:
غنينا بانتجاع خلا المراعي
حوالي كل راعية وراع .
سنين حلا انتجاع الرعي فيها
لنا، وخلا لنا جو المراعي .
حدونا إبلها مع كل حاد
وعاعينا بها معْ كل عاع .
فجاءت بعد ذاك صروف دهر
صرفن إلى الشراء والابتياع .
دعانا من صروف الدهر فيها
إلى المكيال والميزان داع .
نقيم الوزن ثَمَّ بكل كيل
ونوفي الكَيل ثَمَّ بكل صاع …..
فإن ترني لدى الحانوت أشري
به وأبيع من سَقَط المتاع .
فإني سوف أنشد عند بيعي
أضاعوني وأي فتى مضاع .
كما سجّل بعباراته الخفيفة وأساليبه الظريفة كيفيّة تقاضيه للديون من الغرماء الذين يبدو أنه كان يتعامل معهم بوسمه “اتّاه” وليس بصفته التاجر الذي في العادة لا يقبل الغبن ولا يرضى المطل:
وراع الاصطرلاب حتى إذا
حان المدى من وقته العاشر
فاشتر من لحم لنا قطعة
وجرعة من لبن خاثر
واذهب إلى زيد فجئني بما
أسلفتُه في الزمن الغابر
ثم إلى عمرو إلى خالد
إلى أبي عمرو إلى عامر
فإن همُ قضوا وإلا فلا
تذكر لهم شيئا إلى دائر ….
ومن ظريف ما وقع أخيرا بين ثنائيِّ التجارة والشعر أن “دولة الظرفاء” في بداية الطلب نظرا لقلة الموارد وضيق ذات اليد كانت تدعوهم الظروف إلى التداين من عند أرباب الدكاكين في الحي لتوفير الجو الملائم للطرقة من أتاي و”رشوقه”، وكان التجار حينئذ يعملون بمبدإ “الحفاظ على الموجود” فليس من السهل اصطياد بضائعهم بشَرَك الديون، خصوصا لغير الميسورين من الزبناء، وإن قُدِّرَ شيء من ذلك فالقلم والدفتر قيد للشوارد، فوصف القاضي محمدفال ولد محمد حرمه -وهو من أفراد الدولة- تلك الشؤون وصفا طريفا:
متى تات التِّجار تريد دينا / تجدهم رافضين ومانعينا .
وإن تر منهمُ قوما كراما / ترى منهم كراما كاتبينا .
وحدثني هذه الأيام صديق تاجر عن معاناة كبيرة يلقاها من الغرماء ومشقة فادحة في اقتضاء الديون منهم، وحمّل بريدَ “الصباحيات” شكوى مرفوعة إلى قضاة ذي المجاز وحكّامه وظرفائه، وهي:
يا معشر الظرفاء، هل من حاكم
بالعدل، أو قاض يردُّ مظالمي ؟
من يقتضي حقي من الغرماء إذ
أعيا وسائليَ اقتضاءُ مغارمي ؟
مالي أمدُّ لهم يدا مبسوطة
ملأى، وألقاهم بثغر باسم .
فإذا مددت يد التقاضي بُدِّلَتْ
غُرُّ الوجوهِ معالما بمعالم .
وغدوتُ كالآتي بخَطْب قاصم
أو كنتُ كالغازي بجيش داهم .
أفنيتُ صُفْرَ دنانري، أقضي بها
دَأْبا حوائجَهم، وبيضَ دراهمي .
واليوم ها أنذا أعَضُّ أناملي
–وأنا رهينُ المَطْل- عضَّةَ نادمِ ..