الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

الشيب في الشعر / ذ. السيد أحمدو الطلبة

 

 

الشيب مظهرٌ بشريٌّ مألوف غير مُحَبَّبٍ إلى النفوس لما ياتي معه عادةً من نُذُر تُقِضُّ مضاجع أصحاب الآمال الطويلة، وضيف من ضيوف الأجسام يستدعي قِرًى خاصا، ذلك القِرى الذي أشفق البوصيري على نفسه أن يكون قد قصَّرَ فيه:

فإن أمَّارتي بالسوء ما اتَّعظَتْ

مِن جهلها بنذير الشيبِ والهرَمِ .

 

ولا أَعَدَّتْ مِنَ الفعل الجميل قِرى

ضيف ألَمَّ برأسي غيرَ مُحْتشِمِ .

 

لو كنتُ أعلمُ أني ما أُوَقِّرُه

كتمتُ سرًّا بدا لي منه بالكَتَمِ .

 

عندما حاول علقمة تشخيص المرض الذي يهدم أركان العلائق العاطفية ويقطع حبال الوُصْلة بين ذوي المعارف، كان الشيب حاضرا في تشخيصه الموسوم بالحكمة:

فإن تسألوني بالنساء، فإنني

بصير بأدواء النساء طبيب .

 

أراهن لا يحببن من قلَّ ماله

ولا من رأين الشيب وقوَّسا .

 

ولذلك لم يزل الشعراء يتبرّمون بالشيب ويشكونه، يقول أحدهم:

لا تَعْجَبي يا سَلْمَ مِن رجل

 ضحِكَ المشيبُ برأسه، فبكى !

 

ويقول آخر:

لقد جَلَّ خطْبُ الشيبِ إن كان كلما

بدتْ شيبةٌ يَعْرى من اللهو مرْكبُ .

 

ولآخر:

لئن قصَصْتُكَ بالمِقراضِ عن بصَري

لما قصصتكَ عن هَمّي وعن فِكري .

 

ومن الشعراء مَن دهَمه جندُ الشيب قبل أن تكتمل ثلاثة عقود مِن عمره، إلا أنه لم يشْكُ بل تيامنَ واستبشر _أو على الأقل أظهر ذلك_ مدَّعيا أن لاشيء في ذلك يدعو للعجب، وإنما العجب من كون الشيب أمهله إلى ذلك الحين ولم يعاجله وهو في مهده (أبوتمام):

ست وعشرون تدعوني فأتبعها

إلى المشيب، ولم تظلم ولم تحُب .

 

فأصغِري أنَّ شيبا لاح بي حَدَثًا

وأكْبِري أنني في المهد لم أشِبِ

 

ولا يؤرِّقْكِ إيماضُ القتيرِ به

فإن ذاك ابتسام الرأي والأدبِ .

 

أما المتنبي فلم يشكُ ولم يتيامنْ، وإنما تعامل مع ذلك الضيف بغلظته المعهودة مُصرًّا على قلب الحقائق والتشبث بأذيال الصبا المنصرف:

وفي الجسم نفسٌ لا تشيب بشيبه

ولو أنَّ ما في النفس منه حراب .

 

يُغيِّرُ مني الدهر ما شاء غيرها

وأبلغ أقصى العمر، وهي كَعابُ .

 

وإن كان له ما يناقض هذا المبدأ في قصيدة أخرى:

 

خُلقتُ أَلوفًا، لو رجعتُ إلى الصبا

لودَّعتُ شيبي موجعَ القلبِ باكيا .

 

وعلى أي حال فشتان بين مشرب المتنبي ومشارب الصالحين في الشيب، فإن كان المتنبي لم يقبل من الشيب نِذارته ولم يشغله عن التعلق بما مضى من عمره الضائع، فقد أجاد ابن الشيخ سيديَّ حين عبّر عن قلقه مما حدَّثَ به نذير الشيب من وشك حلول قادم مرتقب لم يكن ناسيا له يوما من الأيام:

ولما صاح مِن فَوْدي نذير

وصَرَّح ثانيا بالعارضَيْن .

 

وقبل الشيب إيجادي نعاني

فليس الشيب أول ناعيَيْنِ .

 

سلا قلبي عن الدنيا لكوني

وما أهواه منها فانيَيْنِ .

 

وذلك ما نصح به شيخنا بَدِّي ابن سيدينا أهل الشيب:

فدع عنك ذا فالنسر عزَّ ابنَ داية

وعشَّشَ في وَكْرَيه ضربةَ لازمِ .

 

وجانِبْ حمى مولاكَ واعْنَ بأمره

بعزم على التقوى وردِّ المظالمِ .

 

وكذلك شيخنا محمدفال بن بابه في قصيدة “الشوابين” تلك القصيدة العجيبة والفريدة في بابها:

يا لاهيا والشيبُ خَمَّرَ رأسَه

حرْثُ الصبا لم تَبقَ في إِبّانِه .

 

تَجني جَنى العصيان ويكَ إلى متى

يا باحثا عن حتفه ببَنانه .

 

لِيُواصِلَنْ شربَ التقى مَنْ عمرُه

قد ولّت العشرون مِنْ شعَبانه

 

لم تستو القلوب !!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق