الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

شعر الأعراب / ذ. السيد أحمدو الطلبة

الأعراب هم أهل البدو من العرب الذين يتتبعون مواقع القطر ويحلّون ويرتحلون في النجعة، وفي شعرهم طعم خاص وعليه طلاوة لا توجد في شعر عرب الحواضر ..

الغريب أن صنوج الناقدين التي بها يَزِنون محاسن الشعر ومعايبه لا سبيل لها على هذا النمط من الشعر، لأنه ينفذ إلى قلوب المتلقين بدون استئذان ويَعبُر حواجز التفتيش من غير أن تتمكن شرطة النقد من استيقافه …

إذا راح ركب مصعدين فقلبه / مع الرائحين المصعدين جنيبُ .

وإن هب عُلْويُّ الرياح رأيتني / كأني لعلويّ الرياح نسيبُ .

وإن الكثيب الفردَ من جانب الحمى / إليّ -وإن لم آته لحبيبُ !

من يستطيع تحديد مكمن الحسن في هذه الأبيات التي ما إن يسمعها المتلقي حتى يجد نفسه صيدا سهلا لأسلوبها البسيط وفكرتها السطحية ومأخذها القريب ؟!

وما الشيء الذي يحبس متصفّحَ الأمالي عند هذه الأبيات:

يقر بعيني أن أرى من مكانه / ذرى عقدات الأبلق المتقاود .

وأن أرد الماء الذي شربتْ به / سليمى وقد مل السرى كل واخد .

وألصق أحشائي ببرد ترابه / ولو كان مخلوطا بسم الأساود .

الأعراب أودع الله في شعرهم شيئا ما ! يسبيكَ أسلوب أحدهم وهو يبعث رسالة إلى أضاة في واد من الأوداء يعرب لها عن شوقه للاستقاء منها والاستظلال بأفياء أشجارها:

اقرأ على الوشَل السلامَ، وقل له / كل المشارب مذ هُجِرتَ ذميمُ .

سقيا لظلك بالعشي وبالضحى / ولبرد مائكَ والمياه حميمُ .

لو كنتُ أملك منع مائكَ لم يذق
ما في قلاتكَ ما حييتُ لئيم .

ويتحدث لك أحدهم عن هجرانه لمحبوبه ثم ندمه على ذلك الهجران، فيبلغ من قلبك حديثُه مبلغا عظيما ويترك فيه أثرا بالغا:

هجرتكِ أياما بذي الغمر، إنني / على هجر أيام بذي الغمر نادمُ .

وإني وذاك الهجرَ لو تعلمينه / كعازبة عن طفلها وهي رائمُ .

ومما يزيد العجب أن الأعراب عُرفوا بالجفاء وحزونة الطباع، فمن أين لهم بهذه الرقة التي تطبع شعرهم ؟

نعم لا شك في جفاء الأعراب، بل نجد منهم من يعترف بذلك ويصف به نفسه:

وإني على ما كان من عنجهيتي / ولوثة أعرابيتي لأديبُ .

وكانت كلمة “أعرابي” بعد ظهور الإسلام ترمز لصفة الجفاء، وكانوا يقولون للجافي: ألم تترك أعرابيتك بعد ؟

غير أن لهم محاسن منها الفصاحة ومنها الفطنة، ومن ظريف ما يحكى عنهم أن أحدهم ورد على ناد فيه الأصمعي، فقال له: يا أصمعي أنت الذي يزعمون أنك أعلم الناس بالشعر والعربية وحكايات الأعراب، فقال الأصمعي منهم من هو أعلم مني ومنهم من دوني، فقال له: هل لك أن تنشدني من شعر أهل الحضر لأقيسه على شعر أصحابنا، يعني الأعراب، فأنشده لبعض الحضريين شعرا في مدح أحد الملوك، فهجم بالانتقاد قائلا إنه شعر خلَق النسج خطؤه أكثر من صوابه يغطي عيوبه حسن الروي، وأنشد في مقابله من شعر الأعراب ما راقه، ثم قال للأصمعي: ألا تنشدني شعرا ترتاح إليه النفس ويسكن له القلب، فأنشده لابن الرقاع أبياتا منها:

وناعمة تجلو بعود أراكة / مؤشرة يسبي المعانق طيبها .
أراك إلى نجد تحنّ، وإنما / منى كل نفس حيث كان حبيبها .

فهجم ثانيا بالانتقاد وأنشده لنفسه أبياتا منها:

إذا احتجبت لم يكفك البدر ضوءها / وتكفيك ضوء البدر إن حُجب البدرُ .

وحسبك من خمر يفوتك ريقها / ووالله ما من ريقها حسبك الخمرُ .

فقال الأصمعي لجلسائه: اكتبوا ما سمعتم ولو بأطراف المدى في رقاق الأكباد ..

كنت أسمع في المذاكرات ذلك النمط من الشعر فياخذ من قلبي كل مأخذ، ولم يكن عندي له ضابط أو عنوان أدخله تحته غير أنه شعر مؤثر بالغ الرقة والبساطة، لا يصطدم قارئه بصخور اللغة ولا يبحر في لجج الاستعارات والكنايات ..
إلى أن عرفت لاحقا أن تلك الظاهرة الأدبيّة البسيطة والجذابة والتي لم تعطَ ما تستحق من الدراسة تسمى “شعر الأعراب” !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق