الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

الشعر والجوائز / أ. السيد أحمدو الطلبة

أعظم جائزة في تاريخ الشعر والشعراء البردة النبوية التي حَظيَ بها كعب بن زهير رضي الله عنه إثر إنشاده قصيدته: (بانت سعاد) لأنها جائزة تحمل في أثنائها سعادة الدارين وترمُز لأمان لا خوف بعده أبدا، وهي من مشاهد الخلُق العظيم ووقائع العفو العجيب ..

بعد توديع العهد النبوي، بقي نجم الشعر آفلا إلى حين بفعل إشعاع شمس الوحي السماوي التي -وإن توارت بالحجاب- لم يزل نورها ساطعا وألَقُها وهّاجا، فلم يستطع الشعر أن يظهر من مكمَنه حتى غاب شفق الوحي وألقى الظلام بكلكَله بانقضاء عصر الخلافة الراشدة ودخول حقبة المُلك العَضود، فراجعت الشعرَ روح الحياة وبدأت تَدِبّ في أوصاله، وأخذت السوق الشعرية تنهض من كبوتها، وبدأ الشعراء يزدحمون على عروش الخلافة لعرض سلعهم الشعرية، فانهالت عليهم الجوائز الجزيلة بمدحهم لملوك لا يحسبون للدار الآخرة كبير حساب، وإنما الأحكام كلها خاضعة لأمزجتهم التي لا أحد يعرف متى تهدأ ريحها ومتى تكون ريحا صرصرا عاتية ..
فقد أجاز عبد الملك بن مروان -مع ما هو معلوم من بخله- جرير بن عطية بمائة من الإبل سود الحَدَق مع رُعاتها ومِحلَبها الفضّي النفيس، وذلك حين استطاع أن ينفذ إلى قلبه بقصيدته الرائعة:

أتصحو أم فؤادك غير صاح / عشية همّ صحبك بالرواح .

فحين بلغ منها قوله:

ألستم خير مَن ركب المطايا
وأندى العالمين بطونَ راح ؟

تعَزّت أمّ حزرةَ ثم قالت
رأيتُ الواردين ذوي امتياح

ثقي بالله ليس له شريك
ومِن عند الخليفة بالنجاح .

هزّت الأريحيّة عبد الملك وقال: هكذا نحن وما زلنا ..

ويبدو أن مشرب عبد الملك في المدح غير مشرب الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز الذي ازدحم على بابه شعراء العرب، فلم يأذن لأحد منهم سوى جرير، ولما دخل وأراد أن ينشده قال له: ويحك يا جرير اتق الله ولا تقل إلا حقا، فأنشده قصيدته:

أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت
أم قد كفاني بما بُلِّغتَ مِن خبري

كم باليمامة من شعثاء أرملة
ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر الخ

فقال له: ما أرى لك في بيت المال حقا، فقال: بلى، إني منقطع وعابر سبيل، فأعطاه من ماله الخاص أربع مائة درهم، فلما خرج قال له الشعراء: ما وراءك فقال: ما يسوؤكم، خليفة يعطي الفقراء ويحرم الشعراء وإني عنه لراض، وأنشد :

رأيت رُقى الشيطان لا تستفزّه / وقد كان شيطاني من الجن راقيا .

ومن أجزل الجوائز ما تذكر بعض الزعَمات أن أبا تَمّام مدَح أحد الخلفاء العباسيين بقصيدته السينية التي مطلعها:

ما في وقوفك ساعة من باس
نقضي ذمام الأربُع الأدراس .

والتي يقول فيها:

إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنفَ في ذكاء إياس .

فأجازه بتتويجه واليا على الموصل، وهذه الجائزة لو صحت لكانت تحقيقا بالنوع لمبالغة المتنبي في مدحه لكافور الإخشيدي:

وغيرُ بعيد أن يزورك راجل / فيرجع ملكا للعراقين واليا

غيرَ أنها حكاية مكذوبة فنّدها ابن خلّكان مؤكدا أن الممدوح بها لم يكن من الخلفاء وإن كان منسوبا لبيت الخلافة وهو أحمد بن المعتصم، وذكر أن الوظيفة التي كانت لأبي تمام في الموصل هي الولاية على عمل بريدها، وهي وظيفة تقلّدها من طرف الحسن بن وهب ممدوحه الذي يقول فيه:

فإن لديّ للحسن بن وهب ….. حِباء مثل شؤبوب الحَبِيِّ .

وذلك في قصيدته القلادة:

أيا ويح الشجيّ من الخلِيِّ
وبالي الربع من إحدى بَلِيِّ .

وادعى المتنبي على عادته في الإغراب والاعتداد بالنفس أن كل مادح لسيف الدولة إنما يعيد ويكرر مدحه له ويردّد صدى أهازيجه فيه، ورتّب على ذلك استحقاقه لجوائز مادحي الأمير الحمداني كلهم:

أجِزني إذا أُنشِدتَ شعرا، فإنما
بشعري أتاك المادحون مردَّدا .

ودع كل صوت غير صوتي، فإنني
أنا الطائر المحكيُّ، والآخَر الصدى .

ومن طريف الجوائز ما تذكر كتب الأدب عن أحمد بن المدبّر أنه كان من دأبه أنه إذا مدحه شاعر فقصّر في مدحه عن مرتبة الإجادة يحكم عليه بمائة ركعة يصليها متتابعة، يبعث معه الغلمان إلى المسجد حتى يشهدوا أنه أدّاها كاملة غير منقوصة، فتناذر الشعراء بابه خوفا من تلك الجائزة المتعبة والعبادة التي ما أريد بها وجه الله، فلم يكن يرِد عليه إلا أفراد متميّزون من الشعراء، وأنشده أحد الشعراء في ذلك أبياتا في غاية الظرافة:

أردنا في أبي حسن مديحا
كما بالمدح تُنتَجَع الولاة .

فقلنا: أكرمُ الثقلين طُرّا
ومن كفّيه دجلة والفرات .

فقالوا: يقبل المِدْحات، لكن
جوائزه عليهن الصلاة .

فقلت لهم: وما يغني عيالي
صلاتي؟ إنما الشأن الزكاة .

فيامر لي بكسر الصاد منه
فتصبح لي الصَّلاة هي الصِّلاتُ .

ويذَكِّرني البيت الذي قبل الأخير بما يُحكى عن أحد كبار الأدباء الظرفاء أنه زار الولي الصالح الشيخ أحمدُّ بمبه مستجديا صنائع معروفه ومستعينا به على عاديات الزمان، فقال له الشيخ: إن شئت الآخرة دعوتُ لك، وإن شئت الدنيا حبوتك ما يجبر كسرك ويلمّ شعثك، فقال له الأديب: يا سيدي إن الآخرة شيءمرغوب عندي، ولكني تركت خلفي عيالا يرتقب بأوبتي الكسوة والنفقة، وليس لهم من أسباب الكسب غير سفري هذا، فلا قِبَل لهم بأن أرجع لأقول لهم: لقد جئتكم بالآخرة ..

ويبدو أن الجن كالإنس قد يُجيزون على أغراض أخرى غير المدح، فقد حفظتُ لهم منذ الطفولة “گافا” يعِدون فيه بجائزة لمن أتمه بطلعة مناسبة:

أمنادم طلّعْ لِ ذا الگاف …. نكريه بكرشَ تتْلغلغْ
جالغ من جالغ جَلَغلافْ …. جالغ من جالغ جلَغلغْ .

وقد استحق بجدارة تلك الجائزة غير المغرية أستاذنا محمد ولد بتار حين أتى بالطلعة المطلوبة على أكمل وجه:

من فضل المولَ وساني …. بدّاع البدع الحساني
يبلغ لمبلّغْ بلساني …. والّ ما بلّغ ما يبلغْ
ما ندلغ في الخير اَراني …. وفي الشر امّلّ ما ندلغْ
وامنادم بالغ فاحساني …. نبلغ لُ في الشكر المبلغْ .

وامنادم طلّع ل ذا الگاف …الخ

ولم نتمكّن من الاطلاع على مآل الجائزة الموعودة هل استُلمَت أم لا؟

وأختم هذا الموضوع بقصة حدثني بها أحد الإخوة الثقات، وهي قصة تُظهر بُعد البون بين أهل عصرنا وأهل العصور الأولى، وتعَبّر عن المستوى الذي وصل إليه الأدب هذه الأيام، وخلاصتها أن أحد الشعراء الكبار زار أحد رجال الأعمال المعروفين وكانت له فيه حاجة، وقدّم بين يدي حاجته أبياتا كما تقتضيه المروءة، وكان رَويُّها ميما مضموما، فلما فرغ من إنشادها قال له الممدوح: يا فلان أتظن أن “مو مو مو …….” تستخرج من الناس كرائم أموالهم ؟ هيهات منك ذلك، ورجع الشاعر المسكين بخفي حنين ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق