الأستاذ محمد بن بتار بن الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

 الوقار والأريحية / أ. محمد بتار الطلبة

الوقار : الحلم والرزانة، وهو حلية أهل الفضل والسلطة والبأس، لكنه قد يكون في بعض الأحيان حجابا حصيفا من غير كثافة يأذن للأريحية عند طروقها ويحجب السخف والإسفاف كما يأذن دوح الوادي للنسيم ويحجب حر الشمس ولفحة الرمضاء.
والأريحية: ارتياح الإنسان في نفسه وما يجده من هزة السرور وخفة النشاط،
وهي من الأعراض التي تنم عن داء الهوى في النفوس الكريمة؛ قال البحتري :
وما بات مطويا على أريحية
بعِقْب النوى إلا امرؤ بات مغرما
وقال محرز العكلي :
يظل فؤادي شاخصا من مكانه
لذكر الغواني مستهاما متيما
إذا قلت مات الشوق مني تنسمت
به أريحيات الهوى فترنما
ومن أمثال العرب : الكريم طروب.
بعض النفوس الكبيرة تسع الضدين فتحمل الحلم والرزانة إلى جانب الخفة وهزة السرور كل فى أوانه وتحت عنوانه .
وتنتظم الصورة الكاملة لهذا التعايش السلمي بين الضدين على غرار سيف أبي العلاء :
مقيم النصل في طرفي نقيض
يكون تباين منه اشتكالا
تبيَّنُ فوقه ضحضاح ماء
وتبصر فيه للنار اشتعالا.
لا شك أن هذه النفوس ظهرت مع ظهور العنصر البشري وربما تكون من أبرز أسباب نجاحه في عمارة الأرض التي استخلف فيها
لكنني هنا أكتفي بإثبات بعض مظاهر هذه الظاهرة في عصور مختلفة بشكل مقتضب.

من الفقهاء من طغت شهرته الأدبية على جانبه العلمي كعروة بن أذينة من فقهاء المدينة السبعة وكابن أبي عتيق أحد رجال الصحيح وهو صديق عمر بن أبي ربيعة الذين يقول عنه ‘ما عُصي الله بشيء أكثر من شعر ابن أبي ربيعة” وكالفقيه عمارة اليمني وأضرابهم من فقهاء الإسلام.
وكالحاج ولد الكتاب ومحمد عبد الرحمن ولد المبارك ولد اليمين ومن ينتظم في سلكهم من فقهاء شعراء القطر الشنقيطي.
ومن الفقهاء من وهبه الله صنعة فقهية خالصة لا شية فيها إلا أنه قد يجد نفسه في أسر الأريحية الأدبية على غير ميعاد.

وأشهر الأبيات الشعرية التي راح الفقهاء ضحيتها قول جرير :
إن الذين غدوا بلبك غادروا
وشلا بعينك لا يزال معينا
غيَّضن من عبراتهن وقلن لي
ما ذا لقيت من الهوى ولقينا
فقد حلف أبو السائب المخزومي حين خطر بقلبه هذان البيتان عند مائدة الإفطار يمينا غليظة أن لا يفطر إلا على هذين البيتين.
وقال لتلميذه يابن أخي أتدري ما التغييض؟ فقال لا. قال : هكذا، وأشار بأصبعه إلى جفنه كأنه يأخذ الدمع وينضحه.
وتعرض عطاء بن أبي رباح لابن سريج المغني وكلمه في الكف عن الغناء فغنى له ابن سريج بهذين البيتين فاضطرب عطاء ودخلته أريحية وحلف لا يكلم أحدا بقية يومه إلا بهذا الشعر، وصار إلى مكانه من المسجد الحرام فكان كل من يأتيه سائلا عن حلال أو حرام لا يجيبه إلا بأن يضرب إحدى يديه على الأخرى وينشد هذا الشعر حتى صلى المغرب.
وشهد رجل عند قاض فقيل له من يعرفك؟، فقال : ابن أبي عتيق فبعث إليه يسأله عنه فقال عدل رضا فقيل له أكنت تعرفه قبل اليوم قال لا ولكني سمعته ينشد
غيضن من عبراتهن……
فعلمت أن هذا لا يرسخ إلا في قلب مؤمن فشهدت له بالعدالة.
وتُذكِّر هذه التزكية بما حصل من أحد أجلاء الزوايا وقد أوى من شقة السير مع رفيق له إلى خيمة راع في البادية ووقعت منهما “نظرة أولى” على امرأة الراعي، فلما حضرت الصلاة قدَّم المرابطُ الراعيَ للصلاة بهم قائلا له : تقدم فأنت رشيد.
ومما يروى في كتب الفقه أن أبا بكر الأبهري شيخ المالكية في بغداد في زمنه وجماعة من شيوخ المذاهب والطوائف لو خر عليهم سقف البيت لم يبق في العراق من يفتي في نازلة ممن يشبههم وكان في مجلسهم غلام يقرأ القرآن بصوت حسن فقيل له قل لنا شيئا فقال وهم يسمعون :
خطت أناملُها في بطن قرطاس
رسالة بعبير لا بأنفاس
أن زُرْ فديتك لي من غير محتشم
فإن حبك لي قد ضاع في الناس
فكان قولي لمن أدى رسالتها
قفى لأمشي على العينين والراس.
ومن اللجوء إلى مكامن الأريحية لتغيير المواقف – كما فعل ابن سريج مع عطاء- ما يروى عن الحسن بن زين رحمه الله تعالى وهو أنه ربما نابه حال قبض فاحتجب عن الطلبة فيختفي طالب حسن الصوت خلف سجف الخباء وينشد :
أرضَ العقيلات يا برق الحيا وعلى
أحيائها لعيون الشائمين لح
فيقبل الحسن على طلبته وهو يكرر لُحِ.. لُحِ ويعود إلى عادته.
ومن أروع ما وصفت به الأريحية الأدبية في نفوس الأشراف قول ولد المبارك ولد اليمين :
عيِّلْ ديمان الِّ لگْفَ
ما يندارُ فيه وظرفَ
عن ذيك الحِرفَ والحرفَ
يكفاهم منهَ شي كافِ
ما يشگاو افگلت لحفَ
ؤلا فيهم ول آدم حافِ
ؤلا گط اخفاهم شي يخفَ
ولا يبغو تبيين الخافِ
يوم اصباحِ عند اوجبر
رحت الهم في الليل امگافِ
منصاب امنادم ما يجبرْ
حد مع طبعُ متنافِ
ويضارعه في الحسن قول محمد الرصافي القرطبي في نفس الغرض :
سلى خميلتَكِ الرفّا بآية ما
كانت ترف بها ريحانة الأدب
عن فتية نزلوا على أسرتها
عفت محاسنهم إلا من الكتب
محافظين على العليا وربتما
هزوا السجايا قليلا بابنة العنب
حتى إذا ما قضوا من كأسها وطرا
وضاحكوها إلى حد من الطرب
راحوا رواجا وقد زيدت عمائهم
حملا ودارت على أربى من الشهب لا يظهر السكر جالا من ذوائبهم
إلا التفافَ الصَّبا في ألسن العذب.

إلا أن( عيل ديمان) لا يعرفون ابنة العنب.

شهدتُ كثيرا من مشاهد الانسجام بين وقار العلم والفضل والأريحية الأدبية في منطقة العُقَل حيث كان ذلك الانسجام جزءً من النظام التربوي للمحظرة.
لكن المشهد الذي أثبته هنا من ذلك هو ما رأيته عند باب جامع مسجد النباغية حيث كان الشيخ سيدي محمد ولد آب رحمه الله تعالى يحدث الشيخ محمد المختار ولد اباه عن رحلة قام بها مساء ذلك اليوم بين ربوع الصبا ومعاهد الود في “العگله” “حرث حامدين” “الواد” “لكويريّ”……. وانشد سيدي محمد في خاتمة العرض قول ولد سيدي هيبه :
يعگلي هذي تگگلت
أخير اتوب اگبل ما مت
وهذي زاد امل كديتْ
تورارين وذاك الصابون
حاجلك يالعگل اتفگدت
لعدت إلى ما نك مجنون

وانشد الشيخان معا المقطع الأخير :
تعرف خظت امّن هون وخظت
امّن هون ؤخظت امّن هون.

أثبتت التجارب قديما وحديثا أن دولة العلم وسلطة الدولة لا تقومان إلا على بساط من الأدب.
ومن نصوص الزوايا قديما في قطرنا الشنقيطي ما حدثني به العلامة لمرابط محمد سالم ولد عدود رحمه الله تعالى في لقاء أدبي :”لِحْفَ ما يصَيّْب الجنه”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق