الأيام / ذ. السيد أحمدو الطلبة
على القارئ أن لا يذهب به العنوان بعيدا ليتذكر كُتّاب القرن العشرين و”أيامهم” الراقية والبديعة في أسلوبها، السافلة والصغيرة في مضمونها ..
هذه الأيام ليست تصنيفا بديعا ولا قصة ممتعة …
إنما هي خاطرة تتحدث عن أيام الأسبوع بما سنح وحضر بالبال من خصائص أدبية لكل منها ..
أما الجمعة فيوم مبارك، ومن بركاته الأدبيّة أنه اليوم الذي خرج فيه الشاعر ابو تمّام من عالَم الخمول ليَبرُز شاعرا منقطع النظير في زمانه، وسبب ذلك أن منتدى أدبيا للشعراء كان ينعقد كل جمعة ببغداد في القبة المعروفة بقبة الشعراء في رِحاب جامع المنصور، يتبادل فيه الشعراء جديدَ شعرهم وحديثَ نسجهم، وكان يحضره أبو تمّام وهو شاب حدث يجلس مستمعا في أطراف الحلقة بزِيِّ أعرابي وهيئة رثّة، وفي إحدى الجمعات طلب منهم بعدما فرغوا من المذاكرة أن يسمعوا منه كما سمع منهم، وأنشدهم قصيدة يقول فيها:
ما أقبلت أوجه اللذات سافرةً
مذ أدبرت باللوى أيامنا الأُوَلُ .
إن شئت أن لا ترى صبرا لمصطبر
فانظر على أي حال أصبح الطلل !
كأنما جاد مغناه فغيّره
دموعنا يوم بانوا، وهْي تنهمل …
فطربوا لإنشاده واستزادوه فأنشدهم قصائد أخرى، فعرفوا له قدره وقرّبوا مجلسه، ولم يزل يرقى مدارجَ الفحول حتى أصبح أباتمّام الشاعر ..
أما السبت فقد كانت له صورة قاتمة في مخيّلتي لارتباطه عندي بمعناه اللغوي الذي هو القطع، ولما حفظتُ من بعض الآثار: يوم السبت يوم مكر وخديعة، ولِما عشتُ وعايشتُ من بغض الصبيان له كيوم أول من الدرس الجادّ يقطع حلاوة الفراغ ولذة اللعب والبطالة، وقد اشتهر ذلك حتى قيل فيه:
أثقل من طلعة يوم السبت …. على ابن خمس وعلى ابن ست .
غيرَ أني وجدت لذلك الساقط لاقِطا في عالَم العاشقين وعالَم المعاقرين وأسارى الإبريق والكاس، حيث وجدت أحد العشاق اعتاد من يوم السبت موعدا منتظما لوصل المحبوب:
وحبّب يوم السبت عنديَ أنه …. ينادمني فيه الذي أنا أحببت .
ومن أعجب الأشياء أنيَ مسلم …. حنيف، ولكن خيرُ أياميَ السبت .
ووجدتُ في هواة الصهباء من تصفو له الكأس وتحلو له خَمرتها يوم السبت، حتى سمى السبت “يوم السرور”:
هات اسقني القهوة في سبتنا …. فإن يوم السبت يوم السرور .
وفي يوم الاثنين لكاتب هذه السطور ذكريات طريفة ..
في الأعوام الماضية كان سيدي الأمير عبد الله ولد محمد حرمه يدعو زمرة من نخبة الأساتذة والمتعاطين للأدب للمقيل في بيته كل يوم اثنين، ويُطلِق على تلك الدعوة بخُلُقه الأريحيّ وطبعه المرِح “يوم التكوين” ، وكنتُ ملحَقا بالقوم رغم قصوري وتقصيري، فكانت تلك الدعوة مقتنَصا لشوارد الآداب والحِكَم، ومعترَكا لصائبات الأفهام وراجحات العقول، ومُدرَكا لما يتعطش إليه أمثالنا من أخبار الأسلاف وأنباء الزمان وأبنائه، هذا إلى ما يجود به الخِوان من أطايب الأطعمة ولذائذ الأشربة ..
قُدِّر في أحد الأيام أن أبطأ علينا الرسول الذي تعوَّدنا منه أن يحضر في وقت محدد لإبلاغنا الدعوة، وخرست هواتفنا التي جعلناها على وضع الاستعداد لتلَقّي واردات الفضل، فلما طال بنا الأمر كتب أحد شعراء الدعوة أبياتا في ورقة، هي:
نار الهوى كل يوم اثنين تكويني / شوقا لمعهد إكرام وتكوين .
إذ لم يزل فيه عبد الله يطعمني / ولم يزل بكؤوس الأنس يسقيني .
واليوم ها أنذا في البيت مرتقبا / هواتف الخير من حين إلى حين .
وكتب آخر في مقلوب الورقة:
قل للمكوِّن يومُ اثنين قد وافى / مباركا، وأتى بالخير أصنافا .
لكنّ مِن بركات اليوم واحدة / نعيذُها بكَ أن تعتادَ إخلافا .
وطار بالورقة مبعوث على جناح السرعة إلى الأمير عبد الله، ليتبيّن أن الأمور تسير سيرها المعتاد، وأن لا شيء يدعو للقلق واستخدام السلاح الشعريّ ..
ولم أجد ما أكتب عن الثلاثاء إلا ما أورد الزركلي في كتاب “الأعلام” عند ترجمة السيدة ميّ زيادة، وهي سيدة ذات شأن توفيت في أواخر النصف الأول من القرن الماضي، كانت أديبة وكاتبة وكان لها ناد أدبي يلتئم في منزلها كل يوم ثلاثاء، يقول فيه (أو فيها) إسماعيل صبري باشا:
روحي على دور بعض الحي حائمة / كظامئ الطير تواقا إلى الماء .
إن لم أمتع بمَيٍّ ناظريّ غدا / أنكرتُ صبحك يا يوم الثلاثاء .
أما الأربعاء فقد كان من أحسن الأيام حظا، فقد ذكر سيدنا محمد المختار ولد اباه في رحلة الشعر أنه كان ينعقد فيه ناد أدبي بالرباط في منزل الشريف علي الصقلي، يضم كبار الشعراء والنّقاد المغاربة، ومن محاسن هذا النادي ما ذَكر عنه من منابذة رُوّاده للشعر الحر، والصقلي هذا يقول سيدنا محمد المختار في داره التي سماها “روض السلام” من قصيدة تستحضر ابن حمديس ومعاهد جزيرة صقلية التي كان يعتبرها ابن حمديس جنة من الجنان، أولها:
يا بن حمديس يا صقلّيُّ قل لي / أبحق ترضى بجُهد المُقِلِّ ؟
أين ذكراك بعد طول تناس / فلعلي أعيدها بلعلي …
ومحل الاستشهاد منها:
وبجنب الرباط قرب المصلى / فوق تل على الرياض مُطِلِّ .
لاح روض السلام بيت كريم / أريحي في بشره مستهل …. الخ
كما للصقلي من قصيدة يخاطب بها سيدنا محمد المختار:
مختار ألْقِ عصاكَ يا مختارُ ……
أرِنا قوافيَك النجوم، كما بدت / في ظلمة المَسْرى لها آثارُ …الخ
ومن أدبيّات الأربعاء المشهورة أبيات ابن جندب الذي كان مفتونا بإحدى الجواري يقول فيها:
يا لَلرجال ليوم الأربعاء! أما
ينفك يُحدثُ لي بعد النهى طربا .
ما إن يزال غزال فيه يفتنني
يهوي إلى منزل الأحزاب منتقبا .
يخَبّر الناس أن الأجر همته
وما أتى طالبا للأجر محتسِبا .
لو كان يبغي ثوابا ما أتى ظُهُرا
مضَمّخا بفَتيتِ المسك مختضِبا .
وكان ابن جندب هذا إماما في أحد مساجد المدينة، فلما عُيِّن الحسن ابن زيد بن الحسن بن علي كرّم الله وجهه واليا على المدينة مِن قِبَل المنصور عزله عن الإمامة، فقال له: أيها الأمير لمَ عزلتني عن مقامي ومقام آبائي، فقال له: عزَلكَ عنه يومُ الأربعاء ..
ولطه حسين كتاب سماه “حديث الأربعاء” ، أصله مقالات سياسية وأدبية كان يكتبها كل يوم أربعاء ..
وأقف عند هذه الغاية معترفا بقِصَر الباع، ومعتذرا عن إغفال يومَي الأحد والخميس الذَيْن لم تُسعفني فيهما تقاييدُ المذاكرات ولا “تقافيف” المطالعات، ودهَمني موعد الصباحيّات قبل أن أستكمل العُدّة من البحث والتنقيب:
لله أيامي على رامةٍ ….. وطيبُ أوقاتي على حاجرِ .
تكاد للسرعة في مرّها / أولها يعثر بالآخِرِ .