الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

السرقات والبدائه / أ. السيد أحمدو الطلبة

 

يعزّ عليّ أن أعترف -والطير في وكناتها- أنه من الشروط الأساسية للتفوّق في الشعر التمهّر في سرقة نتائج أفكار الشعراء ..

 

لكن هذه حقيقة من حقائق الشعر لا ينكرها من الشعراء إلا مكابر أو مصاب بما يسمى “جزم الروح”، كان الأقدمون يُلَطّفون ذلك الواقع أحيانا بالتعبير عنه بوقوع الشاعر على الشاعر وأصبح نُقّاد الأدب الحديث يعبرون عنه بمصطلح التناص، ومن أراد أن ينفذ إلى الحقيقة مع الاختصار وربح الوقت الثمين فليس ذلك كله إلا (السرقة) ..

وهذه الحقيقة هي ما أشار إليه الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديّ في عينيته البديعة والفريدة:

 

يا معشر البلغاء، هل من لوذعي

يهدي حجاه لمقصد لم يبدَعِ .

 

إني هممت بأن أقول قصيدة

بِكرا، فأعياني وجود المطلَعِ .

 

لكم اليد الطولى عليَّ إن أنتمُ

ألفيتموه ببقعة أو موضع .

 

وحذارِ من خلع العِذار على الديا

ر، ووقفة الزوار بين الأربُع .

 

وإفاضة العَبَرات في عرَصاتها

وتردد الزفرات بين الأضلعِ .

 

والقينة الشهبا تجاذِب مزهرا

والقهوة الصهبا بكأس مترَعِ .

 

فجميع هذا قد تداوله الورى

حتى غدا ما فيه موضعُ إصبَعِ .

 

وتتبُّع سرقات الشعراء وتفاصيلها عبر التاريخ رحلة طويلة تحتاج للراحلة والزاد والدليل، فلا نكلف أنفسنا ذلك العناء ولكن نذكر في السياق بعض الطرائف، مثل قصيدة الشريف الرضي التي يشكو فيها من سُرّاق شعره، ويظهر أسفا شديدا وحسرة على كونهم سرقوا جيد شعره ثم خلطوه برديئهم، ومن هذه القصيدة:

 

أغاروا على ذود من الشعر آمن

تقادم عندي من نتاج القرائح .

 

فيا ليتهم أدوه في الحي خالصا

ولم يخلطوه بالرذايا الطلائح .

 

أرى كل يوم والأعاجيب جمة

على وبر الجربى وسوم الصحائح .

 

إذا طردوها خالفت برقابها

رجوعا إلى أوطانها والمسارح .

 

إذا انجفلت في غارة بت ناظرا

أراقب منها روحة في الروائح .

 

هبوها إليكم من يديّ منيحة

فقد حان يا للقوم رد المنائح .

 

وتشبهها قصيدة السري الرفاء التي يشكو فيها من سرقة الخالدين الموصليين لشعره، وهي من أطرف الشعر:

 

بكرت عليك مغيرة الأعراب

فاحفظ ثيابك يا أبا الخطاب .

 

ورد العراق ربيعة بن مكدم

وعتيبة بن الحارث بن هشام .

 

شنا على الآداب أقبح غارة

جرحت قلوب محاسن الآداب .

 

فحذار من حركات صِلَّي قفرة

وحذار من حركات ليثي غاب .

 

لا يسلبان أخا الثراء، وإنما

يتناهبان نتائج الألباب .

 

أما الحكم الشرعي في هذا الضرب من السرقة فقد أغفل الفقهاء الكلام عنه، ووجدنا فيه فتوى أدبية لشاعر كبير (سيدي محمد بن الشيخ سيديّ) تقضي بوجوب قطع أيديهم جزاء بما كسبوا:

 

واليوم إما سارق مستوجب

حسم اليمين وقطعها فليُقطَع !

 

أو غاصب متجاسر لم يثنه

عن همه حدّ العوالي الشُّرّع .

 

مهما رأى يوما سواما رُتّعا

شنّ المغار على السوام الرتّع …الخ

 

ومن طريف ما قيل في تطبيق هذ الحد على سُرّاق الشعر، قول أحد أدباء الفقهاء إن الشعر منه ما لو وزِن لا يساوي ربع دينار فلا يقطع بسرقته ..

ولئن كان الأغلب في سرقة الشعراء أن تكون بأخذ المعاني وترك الألفاظ لأصحابها، فإنه من وقائعها النادرة أن يسرق الشاعر قصيدة كاملة وينتحلها بلفظها، ومن ذلك ما وقع في قصيدة ابن غلبون الصوري، وهي قصيدة من جيد الشعر، أولها:

 

أترى بثأر أم بدَيْن …. عَلِقتْ محاسنُها بعيني .

 

في لحظها وقوامها …. ما في المهند والرديني …الخ

 

حيث انتحل شاعر هذه القصيدة ونقلها من موضوعها إلى مدح أحد سادته وزاد فيها بيتا واحدا في الروي والبحر ذكر فيه اسم الممدوح الذي كان يُعرف بلقب “ذو المنقبتين” ، فقال:

 

ولك المناقب كلها / فلم اقتصرت على اثنتين؟

 

وكان تعامل الممدوح معه من النبل والظرافة بمكان رفيع حيث أمر له بجائزة جزيلة، فلما انصرف الشاعر المنتحِل قال الجلساء للممدوح: أجزلت له الجائزة والقصيدة ليست له بل لفلان، فقال: أعرف ذلك كله ولكن أحسن ما في القصيدة البيت الذي سماني فيه وهو له قطعا فقد أجزته على ذلك البيت ..

 

وهذا الموضوع يذكر بآخر لا يبعد منه كثيرا، وهو ارتجال شعر يدعي صاحبه أنه قديم عندما تدعوه الحاجة لذلك، وهذا حصلت منه وقائع مذكورة في كتب الأدب كقضية أبي العباس المبرد مع الشاة المجثمة المنهي في الحديث عن أكل لحمها واستدلاله على المعنى المزعوم ببيت ادعى أنه قديم وهو من إنشائه:

 

لم يبق من آل الحميد نسمه …. إلا عنيز لجبة مجثمه …الخ

 

ومنه عند شعراء الشناقطة قضية سيدي عبد الله ولد محم العلوي مع سلطان المغرب مولاي إسماعيل لما قرأ بين يديه كلمة “الوخيد” ضمن نص فقرأها بالذال المعجمة، وكان ذلك منه غلطا فلما استوقفه السلطان ادعى أن كلا من الإهمال والإعجام فصيح فيها، وأنشد عليه للعرب:

 

أقول لصاحبي لما ارتحلنا / وأسرعنا النجائب في الوخيذ .

 

تمتع من لذيذ كلام حورا / فما بعد العشية من لذيذ .

 

ولم يكن البيتان إلا ابني حينهما ..

 

ومنه قضية لحبيب بن المختار بن الفغ عبيد، وهو شاعر مجيد فاق في صغره علما وصلاحا، امتحن أحد الأدباء بأبيات ارتجلها له لأن ذلك الأديب كان يدعي أنه لا يسمع شعرا إلا عرف هل هو من الشعر العربي القديم أم لا:

 

لوكنت أبكي على شيء لأبكاني

عهد تصرّم لي في دير غسان .

 

دير حوى من خمور الشام أجودها

وساكنوه لعمري خير سكان .

 

دهر يدير علينا الراح كل رشا

خمصان غص بزنديه السواران .

 

أقمت فيه على اللذات معتكفا

حتى نسيت به أهلي وأوطاني .

 

وحكم الأديب المذكور بنسبة تلك الأبيات للشعر العربي القديم ..

ولحبيب هذا تلميذ للعلامة حرمه ولد عبد الجليل كان عنده ذا مكان مكين، يقول فيه:

 

لله درك يا حبيِّبُ من فتى

سن الغليّم في ذكاء الأشيب .

 

لست الصغير إذا تندّ شريدة

وإذا تذاكر فتية في مذهب .

 

إن الكواكب في العيون صغيرة

والأرض تصغر عن بساط الكوكب .

 

هذا ما حضر وتهيأ عندنا لهذا الصباح، وهو موضوع -وإن أرابَ- لما يحمل ضِمْنا من التشجيع على سرقة الشعر، لا يعني أننا ننوي ممارسة ذلك على أرض الواقع، فليطمئن شعراء ذي المجاز فإن نتاج أفكارهم آمن من غاراتنا ..

 

(ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق