أدب وثقافةالأستاذ محمد بن بتار بن الطلبةالرئيسية
أخر الأخبار

يوم في مدينة شنقيط

الشيخ محمد بن بتار بن الطلبة

بعد عقود من سعيها خلف ركب الدول تذكرت موريتانيا أنها تركت وراءها (مُدُنًا) تحمل بقية من ما ترك الأولون , “فأرادت أن تقيم جُدُرها وتستخرج كنوزها” بسواعد أبنائها.
فنشأت فكرة “مهرجان المدن القديمة”

كانت البداية من مدينة شنقيط , فلم يكن بد من أن يدعى رئيس أول جامعة أهلية تحمل اسم (شنقيط) وأول رئيس لمجلس جائزة شنقيط ليكون في مقدمة المحتفين بهذا المشهد الثقافي الشنقيطي البهيج , رغم وجوده خارج البلاد.
في وقت ما من مساء الخميس 17 /02/ 2011 هبطت طائرة الخطوط الملكية المغربية  التي تقل الشيخ د. محمد المختار ولد اباه قادما من رباط الفتح حيث يقول والده العلامة محمد فال بن بابَ رضي الله عنه :
هل انزل بالعلو رباط فتح   أفك به من التهيام قيدا
 فحُدِّد مُنصرَفُ الناس من صلاة الجمعة موعدا لالتئام الوفد المتوجه إلى مدينة شنقيط.

أُخبرتُ بإدراجي ضمن القائمة فجئتُ في الموعد , وبعدما أصبح الوفد جاهزا للركوب , أُسندتْ إلى سائق السيارة الأولى مهمة وضعها في مسار يسمح لها بأن تكون الانطلاقة إلى الإمام دون الحاجة إلى الرجوع إلى الوراء , أنجز السائق المهمة بسهولة , وركب الوفد , وانطلق الموكب.

بعد حديث موجز عن تفاصيل خطة العمل في كتاب (منتخبات من الشعر الموريتاني المعاصر) الصادر عن جامهة شنقيط العصرية ، والذي يبتدئ من حيث انتهى كتاب الشعر والشعراء ، أي من بداية العقد الرابع من القرن الرابع عشر حيث أثبتت تراجم ونصوص لشعراء بارزين من مختلف الجهات من طبقة الأديب الكبير المؤرخ المختار بن حامدن والشاعر المفلق محمد ولد ابنو فمن بعدهم .

كانت السيارة قد تخلصت من آخر معلم من معالم مدينة نواكشوط , وأخذت تتوغل في تافلي أول السهول الثلاثة (تافلي –إنشيري-آمساكَ) . ” سهل (تافلي ) يشبه إلى حد ما أرض تهامة” يقول الشيخ د. محمد المختار.

طال انتظاري لبلدة أم التونسي التي شهدت في عام 1351ه المعركة التي مات فيها (الكابتين دلايج) وخمسة فرنسيين من رفاقه , فقد أخبرني أحد المودعين أنها ستكون عن يميني بعد وقت قصير من خروجنا من العاصمة . لكن الطريق المعبد لا يقترب من المكان بالقدر الكافي لرؤية رسومه وتحديد معالمه.

أخذت أجمع أنفاسي لإكمال القصيدة السينية التي أحاذي بها سِينَتيْ البحتري وشوقي وهي التحفة التي أقدمها لإخوتي في وطني الأول مدينة شنقيط.

قرأت بعض هذه القصيدة على (ضيف شنقيط) فأذكرته بقول شوقي في سينيته
وطني لو شغلتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
واتصلت شجون الحديث بإمارة شوقي للشعراء وبقصيدته التي أنشد في مؤتمر تكريمه بدار الأوبرا الملكية:
مرحبا بالربيع في ريْعانِهْ
وبأنواره وطيب زمانِهْ

ويستحسن الشيخ د.  محمد المختار هنا ويردد قول شوقي في هذه القصيدة:
وهبوني الحمام لذةَ سجع
أين فضل الحمام في تحْنانِه

وَتَرٌ في اللهاة ما للمغني
من يد في صفائه ولِيانِهْ

أوجستُ خيفة من أن يكون الإعجاب بشوقي رمزا إلى عدم توفيقي في ما حاولت من محاذاته فأوردت خبر ابن عبيد الله السقاف مع شوقي وما ذكر في كتابه العود الهندي من أن الميزان العادل عدم استحقاقه للإمارة , ومقالته التي كتب لصحف الوقت في هذا الشأن.

لم تكن هذه الحكاية لتغير رأي الشيخ في شعر أحمد شوقي بك , ولا في استحقاقه إمارة الشعر في وقته. إلا أنه رد إليَّ روعي بثنائه على بيت من قصيدتي السينية :
وأُحَيِّي من الحضارة وجها
نالَ منه الشحوبُ من غبر بُؤْس

ثم عاد الحديث إلى القصيدتين ومناقشة رأي شوقي في قوله في مقدمته النثرية التي مهد بها لقصيدته “إن البديع الفرد في سينية البحتري قوله
والمنايا مواثل وأنوشَرْ
وان يزجي الجيوش تحت الدرفس

كنت أعتقد أن البديع الفرد في هذه القصيدة قوله :
أفرغت في الزجاج من كل قلب     فهي محبوبة إلى كل نفس

وهنا ظهرت في الأفق قمة كدية تمَكُّوطْ أقرب معالم أرض الحرة والنخيل إلى أرض (القبلة)
هنا على مشارف كدية تمكوط حيث خلعت الأرض غلائلها من (امحار) تافلي أو آفطوط ؛ التقطت حصى إنشيري إحدى نفثات الأمير سيد احمد ولد أحمد رحمه الله وهو في طريق العودة من وكر المستعمر في (اندر) إلى حاضرة الإمارة في أطار :
حامِدْ لله الي ابعادْ
اندر وزَيْن اديارُ 

وافرغْ لِمحارْ وعادْ زادْ
يُورَ مَنْبَ بِحْجارُ
-أعتقد أن الترجمان دودو سك ولد (ابن المقداد) شعر بالإهانة من هذا الكاف , فأدار ظهره لأطار متوجها إلى اندر بنفس السرعة حين قال:
حامد لله الي ابعادْ
أطار اللَّوْرَ مُورَ

كِربُ ويدَوْرِ يتَمّْ زادْ
بِعْدُ ينِزادْ اللَّورَ

ويبدو أنه لم يقف في أسلوبه الاستفزازي عند هذا الحد ولعل الطريق من هنا إلى أطار يقدم لنا بعض الأمثلة-
دخلنا مدينة اكجوجت   وكنا قد صلينا العصر في محطة سابقة فلا داعي للنزول قبل غروب الشمس , طوينا المدينة فاستقبلتنا (آمكاد اجحفه) سلسة جبال تمتد إلى الذراع , وهنا تعود أرض الحجاز إلى الذاكرة للتشابه في الاسم والتصميم بين هذه البقعة و(الجحفة) ميقات الشناقطة وغيرهم من حجاج الغرب الإسلامي.

وبعد نحو ربع ساعة من السير قطع بنا الطريق المعبد سلسة التلال المعروفة بالذراع والتي تبدأ برأس الذريع (ذريع اتويفليلت) الذي يذكره امحمد بن الطلبه اليعقوبي في قصيدته :
علام الأسى إن لم نلم ونجزع     ونبك على أطلال رأس الذريع

خليلي ما الخل الوفي سوى الذي    متى تسرر او تجزع يسر ويجزع

فإن كنتما مني فموتا صبابة
عليه وإلا فلتجنا معا معي
………………………………………..
وتشهد أيام الصبا عند ربها
  بأن ليس فيها مثل عصر الذريع

لم نجد أثرا لما تشهد به أيام الصبا عند ربها , لقد أوحش رأس الذريع بعد ابن الطلبه , كما أوحش في عهده النيش والرقمتان ومنحنى الموج بعد أتراب جمل, وتلك سنة الحياة من قبله..
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا   أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وغير بعيد من هنا تقع بلدة آزويكَ التي شهدت أول موسم لـ (الكَيْطْنَه) في البلاد.

بدأ الطريق ينحاز بنا ذات اليمين بعيدا عن معاهد امحمد بن الطلبه , وفي الأفق من جهة المشرق تلوح سلسة الجبال الشهيرة بـ (حيط آدرار) .

 حان وقت المغرب ونحن على مسافة 70 كم من أطار , فدخلنا قرية (يغرف) وكان العثور على المسجد بين البيوت المترامية مهمة سهلة.

وعند باب المسجد بعد انقضاء الصلاة حصل لي مشهد طريف مع الشيخ , وتكرر المشهد نفسه في طريق العودة لدى التوقف في اكجوجت , وسأتحدث عن المشهدين  إن شاء الله بعد أن أستريح في مدينة شنقيط.
أخذنا طريقنا إلى أطار لأن الإخوة هناك أصبحوا يتوقعون وصول الموكب.

 لقد دخلنا ولاية آدرار لكننا لا نستطيع أن نرى  من معالم الأرض إلا ما تقع عليه أضواء السيارة.
بعد وقت قصير ظهرت  قرية عين أهل الطايع التي كان اسمها مرتبطا في ذهني بالرئيس الموريتاني الأسبق , لكن الواقع أن كلمة (الطايع) هي وحدها الجامع بينهما, بدأنا من هنا نرتفع شيئا فشيئا مع باطن آدرار فبدت القرية تحتنا وأضواؤها خافتة تُرى من نوافذ السيارة , كما يشاهد المشرف من نوافذ الطائرة أضواء المدينة عند أخذ الطائرة في النزول.

 انتبه سائق السيارة إلى أنه دخل منطقة الحذر واليقظة لتجنب انزلاق السيارة في المنحدرات التي تحف الطريق , وقعت العيون حينئذ على (امراير حمدون) التي شهدت مقطعا شعريا استفززاريا لابن (ابن المقداد) :
نختير اعلَ ذي انّْوَيكَ  مَرْوَحْ لاكَمُّونْ
عن لحفيرَ وآزْوَيْكَ   وامراير حمدون

استوت السيارة على مرتفع نسبي , وصرت أتوقع حينا بعد حين أن ألقي النظرة الأولى على مدينة أطار, وبدأت عقارب الساعة تقترب من الساعة التاسعه ليلا.

لم يطل بنا الانتظار كثيرا , لقد ظهرت ومضات السيارة التي توقفت بالجانب الأيمن من الطريق عند مدخل المدينة , ترجَّل ركابها للسلام على (ضيف شنقيط) بحفاوة تلقائية , وعادوا بسرعة إلى مقاعدهم وتقدموا طليعةً للموكب.
لم أدرك -إلا بعد فوات الفرصة- أن من بين المستقبلين الرجل الذي بذلت جهدا كبيرا للقائه ولو عبر الهاتف , وقد جرت بيننا مكالمة هاتفية تعرفتُ إليه فيها بأنني من أسرة محمد عبد الرحمن بن الحافظ بن بدي (ولد الطلبه) رحمه الله ,  أعجبني في تلك المكالمة سرده للمقطع التالي:
عثمان الرِّجلَ فيهْ     هيَّ والكرْم اكْرانْ
إبادِلهُمْ بايديه    بيهْ اتْمعليمْ الشانْ
ذاكْ ابانْ اواسيه   ذاك اواسيه ابانْ

وقد كان موضوع الملحون الموريتاني  من أهم أسباب طلب اللقاء , إنه الأديب الكبير أحمد ولد سيدي ميله.
وصلنا المقر المهيأ للضيافة والاستراحة قبل إتمام رحلة الذهاب إلى مدينة شنقيط , وكانت هذه المرة الأولى التي يلتقي فيها جميع أعضاء الوفد بلا استثناء مع صاحب المنزل رجل الأعمال المضياف السيد الشريف ولد عبد الله , بدأ المضيف بالحديث مع ضيفه بعد أن قدمت جميع أصناف الضيافة , وكانت طلائع الربيع العربي ورجوع شركة توتال بمعداتها الثقيلة بعد يأسها من نتائج حفرها الاستكشافي في حوض تاودني من القضايا التي أثارها السيد المضيف وجاذبه الشيخ أطراف الحديث حولها بعناية.

وفي أثناء ذلك انتزع الشيخ ضحكة تعجب عفوية من السيد سيدي محمد ولد محمد الأمين -في حديث بينهما-  بسرده للمواضع الواقعة بين أطار وتججكة , وكان ذلك تحديدا عند ذكره لبلدة (اتويرسرست).

بتنا ليلة هادئة ومريحة في المنزل الرحب والسهل بعد يوم مستمر من السير الجاد , وعدنا للاجتماع في قاعة الاستقبال الفسيحة بعد الشروق للإفطار والاستعداد لإكمال رحلة الذهاب.

خرج معنا المستقبلون للتشييع وودعونا عند المراكب . وانطلقت السيارة في شوارع أطار بحثا عن الطريق المفضي إلى مدينة شنقيط …. 

لم يكن  الخروج من أطار طبقا للصورة التي تركتها عندي أحاديث الوافدين من مدينة شنقيط ؛ كنت أعتقد أن “المدينة” تقع بالجانب الشمالي الغربي من مدينة أطار , وقد أخذت السيارة مسارها إلى الجانب الشمالي الشرقي , لكن كثيرا ما يختلف الواقع ونسج الخيال في ما ينفرد الخيال بصناعته دون استمداد من دائرة الحس المشترك.

وهنا أخذ هاجس صعود قمة (أمكجار) الشهيرة يتسلل إلى النفوس حتى وإن كان الطريقُ المعبدُ حسنُ الصِّيت  الذي شقه السيد العمدة السابق محمدُّ ولد ابنُ قد خفف كثيرا من معاناة سكان “المدينة” في الانتقال منها وإليها.
لم يرد الشيخ لتلك الأجواء أن تعكر صفو “الأبناء”  وهم على مشارف المدينة وفي استقبالهم الوجوه من بني العمومة وخلصان العشيرة في أجواء احتفالية ,  فبدأ يحدث عن بعض مشاهد كرم الضيافة لسكان البدو في ولاية آدرار , ثم عن تاريخ الملحون الموريتاني وبعض نصوصه القديمة:
وادْ احْنَيْنَ ما كان دارْ
إحُكُّوها عَرْب الزبّْارْ

اكْلعْتُ كيفْ اكلعت زار
وانيكرار وماليلَ

والحسَّاني لا كان شارْ
خَيْر إواسي ذي الحيلَ

وعن الحوار الذي دار بين السيدين الأستاذ المؤرخ محمد ولد مولود ولد داداه والشاعر همام رحمة الله عليهما في شأن أقدم مأثور من هذا النوع من الشعر ؛ وكانت البداية من الأستاذ محمد بسؤال وجهه إلى السيد همام , فأورد الأخير  في إجابته مقاطع لقدماء (لمغنيين) الموريتانيين , لكن الأستاذ محمد لم يرتض إجابات السيد الشاعر همام وفاجأه بالقول : إن أول ما سمع من هذا النوع قول نساء الأنصار:
طلع البدر علينا   من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا  ما دعا لله داع

لم تحتفظ لي الذاكرة في ذلك الظرف الدقيق من الرحلة إلا بهذين المقطعين , ولا شك أن تلك الأحاديث خففت من وطأة الموقف , هذا مع ملامح الارتياح التي تظهر على وجه سائق السيارة لأنه  واثق –كما يبدو- من السيارة  التي تم اختيارها لاعتساف ميادين ومرتفعات ولاية آدرار.

كنا نوطن أنفسنا على أن أمامنا هبوطا على قدر الصعود كما قال مرتضى الشيرازي:
بقدر الصعود يكون الهبوط
فإياك والقمم العاليه

لكن الواقع أن الوصول إلى هذه القمة يعني امتطاء صهوة (ظهر آدرار) والوصول بنفس المستوى إلى مدينة شنقيط.
ولم نستعد أنفاسنا من عقبة الصعود حتى اعترضت طريقنا فرقة من رجال مباحث الدرك الوطني في إحدى نقاط التفتيش , ويبدو أن الشيخ  سئم الأسنلة والأجوبة التي كانت تدور في النقاط المماثلة السابقة – حيث كنا نبادر سؤالهم : (من معنا؟) بالقول (الدكتور محمد المختار ولد اباه , رئيس جامعة شنقيط العصرية)- فأراد أن يتولى الإجابة هذه المرة فرد على سؤالهم بالقول “أنا محمد المختار ولد اباه”.  والحقيقة أنه كلام يحسن السكوت عليه, كما يقول علماء النحو , لكن رجل الدرك بقي ينتظر مزيدا من التعريف , فقال له محمد المختار : ” الإنسان إنما يَتَعَرَّف بذكر اسمه واسم أبيه!.

بعد التخلص من هذه النقطة كان علينا أن نلتفت إلى اليمين لنغتنم فرصة نادرة لرؤية كدية (الزركه) التي تلوح في الأفق الجنوبي الشرقي . أكمة الزرقاء التي يذكرها الشيخ العلامة محمد فال بن باب العلوي مخاطبا رفيقه الرجل الصالح محمد الكبير بن العباس العلوي :
أقول وقد لاحت كَنارِ جبالُها
وأرسى بنا البابور صبحا وأوجفا

ألا هل رأى الخِلُّ الكبيرُ كهذه
لدى جانب “الزرقاء” أو جنب “أوجفا”

نَكَّب بنا الطريقُ شبهُ المعبد عن مدرج مطار مدينة شنقيط -الذي هبطت فيه قبل عقود طائرة تقل الشيخ للقاء السيد محمد محمود ولد الطلبه-  فاشرأبت النفوس وطمحت العيون إلى مشاهدة منار مسجد شنقيط على أرض شنقيط لا على الجدران والشاشات ورأسيات الأوراق الرسمية.

عند باب المدينة العتيق كانت جماعة من أعيان (الشناقطة) تنتظر وصول الموكب , وتكرر هنا مشهد الاستقبال الذي رأينا عند مدخل مدينة أطار.

قطعت بنا السيارة –ونحن على آثار المستقبلين- (بطحاء شنقيط) التي تفصل بين الطرف القديم من المدينة والطرف الذي اختطه المستعمر وأرسى فيه قواعده الإدارية , وبعد جولة في زقاق المدينة وصلنا إلى المكان المعَد للمقام على ذروة (الزِّيرَه) التي كانت محط رحل الشيخ أحمدُّ بن الشيخ محمد الحافظ العلوي وعليها مُصَلَّاه وبيوت بعض أبنائه
فألقت عصاها واستقرت بها النوى    كما قر عينا بالإياب المسافر.

وأذكر هنا إعجابي بسمت الشيخ عبدُ الله ولد السالك القلاوي الذي جاء بعد وقت قصير من وصولنا للسلام على الشيخ والتنسيق معه في أداء المهمة.

وبتوقف السيارة عند هذه الربوة انتهت حصة المسافات المكانية من رحلة الذهاب (رحلة الجغرافيا), وبدأت حصة الزمان , (رحلة التاريخ) بين بيوت المدينة وجدرانها التي منها قائم وحصيد

من هنا قبل أربعة قرون من الزمن خرج القاضي عبد الله وابن عمه الحسن وولوا وجوههم شطر (القبلة) تاركين خلفهم الكتب والدور والنخيل , ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

وبين هذه البيوت نشأ أقام الولي الصالح محمد قلي بن إبراهيم البكري أحد الرجال الثلاثة الذين قامت عليهم المدينة ، وهنا نشأ الفقيه عبد الرحمن بن الطالب محمد (أخو القاضي ) وابنه سيدي محمد والعلامة المختار بن الأعمش وابنه الطالب محمد والعلامة سيدي محمد بن حبت وابنه الشيخ والشيخ بن حامني  ونظراؤهم من العلماء الذين قام الدين بهم فاستقامت الدنيا , وطبق صيتهم المشرق والمغرب.

وفي أحمد بن محمود القلاوي أحد أحيان المدينة يقول العلامة محمد فال بن بابَ مهنئا له بالشفاء بعد فترة علاج مكثها الشيخ أحمد معهم هناك في منطقة العقل :

لك الحمد مولانا على برء أحمدا
وقد يئست منه الأقارب والعدا

ويقول في هذه القصيدة :

وفيه علا بكريُّنا علويُّنا
ومعتكف بين الأساطين من بدا

جعل (علوينا) صفة ل (بكرينا) لأن القبيلتين شيء واحد.

وإلى هذه الرحاب وفد العالم الشاعر المبدع الشيخ بدي بن سيدينا لتفقد الخزائن العلمية والثروات العقارية التي تركها جده القاضي وابنه محم من بعده , واستسقى للبلاد والعباد بقصيدته الرائية المشهورة:
عليكم سلام أهل شنقيط من مصر    من آل علي أو من آل أبي بكر
بجديكما سقيتما كل هيدب                يسح كأفواه المزاد من القطر
قد القى بظهر الحيط سبعا بعاعه          وخيم حتى طبق السهل بالوعر
تحدر من أعلى القنان أَتِيُّه                إلى مدرج يعتاده سالف الدهر
فمر على الزرقا فطبق موجها            تدافع أيم ريع فانساب في الجحر
فخَلَّف حِسْيَ التوأمين وراءه            يجيش بماء لا يضيق على الوُفْر
وجر على أوران طرف ذيوله             وجانبه يرتاد ميمنة القصر..

مهرجان المدن القديمة في نسخته الأولى أصبح في آخر أيامه وهو ما يقرأ في وجوه المستقبلين الذين بدت عليهم آثار التعب رغم مظاهر البشر التي تغمر قسمات وجوههم.

بعد الاستراحة قمنا –نحن المرافقين للشيخ- بجولة في المدينة طفنا خلالها بخزائن المخطوطات وصلينا ركعتين في المسجد العتيق وصعدنا المنار وجزنا إلى آبير (شنقيط الأولى)

مسجد شنقيط يرتبط في ذهني برجلين من أجدادي هما باني المسجد أعمر يبني وحفيده عبد الله الذي وهب داره لتوسعة رحبة المسجد واستثنى منها محل قبره المزور الآن في الرحبة.

عدنا إلى محل الإقامة فاغتنمتُ فرصة استراحة القائلة لإتمام القصيدة التي ستلقى مساء هذا اليوم قبل الختام مستلهما من أجواء المدينة ما يضفى على النص الشعري مسحة من الموضوعية والانسجام مع الحدث.

بعد صلاة الظهر من يوم السبت 19/02/2011 بدأت الجماهير من الوافدين والسكان الأصليين تتقاطر على حي (الحنشية) حول المنصة ومضارب الخيام على إيقاع أهازيج وأغاريد المستقبلين لقافلة وادان : قطار من الإبل يحمل التمر والميرة إلى أهالي مدينة شنقيط في تمثيل طريف للطريقة التي كان الشناقطة يمتارون بها ويستبضعون ؛ حيث كان قطار الإبل – منذ حقبة – ينبعث من شنقيط إلى السباخ لجلب أحمال الملح والتوجُّه بها -بعد إضافة أحمال من التمر(غير الأسود)- إلى (انيور) لبيعها هناك وشراء ما يُحتاج إليه من المُؤَن.

أتممتُ الإشراف على طباعة القصيدة في إحدى ورشات تسيير المهرجان وعدت إلى محل الإقامة للالتحاق بالوفد المتوجه إلى قلب الحدث.

عَلِم الوفد من طرف السيد المصطفى ولد احمدان عضو اللجنة المنظِّمة المُضِيف  أن إجراءات انعقاد نادي ما قبل الختام قد استُكملت , فصلينا العصر وخرجنا إلى مخيم المهرجان لأداء الواجب.

في أزقة المدينة العتيقة التي تحتفل اليوم بقِدَمِها يشعر الزائر أنه يسير في عالمين منفصلين : مظاهر عادات وقيم أصيلة تتوارثها العصور جيلا بعد جيل , وتكاسير عمرانية لم تتأثر بإكسير الحداثة , ومشاهد احتفالية تستخدم فيها أحدث الوسائل الفنية المتاحة..!

عند الوصول إلى باب المشهد احتدم التنافس في لقاء الدكتور محمد المختار والاستفادة منه ؛ بين من تقدم لاستقباله والتعرف إليه في متسع من الزمان والمكان , ومن فضَّل الاحتفاظ بمقعده القريب من المنصة المعدة لجلوس “الأستاذ المحاضر”.

بدأت المحاضرة بعد تمهيد من أحد المُنَظمين , وكان الحديث عن عطاء علماء مدينة شنقيط وتاريخهم الغرضَ الذي توجه إليه جمهور الكلام دون تضييع لحقوق علماء باقي المدن القديمة الذين حظوا بقسطهم من الحديث وسيكون لهم الحظ الأوفر في المواسم اللاحقة.

ولم يمنع جوُّ الإعجاب الذي ساد الحضور أثناء المحاضرة “الأستاذَ المحاضرَ” من الإحالة على الدكتور عبد الودود ولد عبد الله في الإجابة على بعض أسئلة طلبته ومحبيه الذين كانوا ينتظرون منه الإجابة على كل شيء.

بعد الإعلان عن انتهاء الحصة المخصصة للمحاضرة دُعيتُ لإلقاء القصيدة التي يبدو أنها أدرجت في ظل المحاضرة ولم تكن على قائمة نصوص المهرجان.

تقدمتُ إلى صدر المجلس ومعي مقدمة نثرية أردت بها أن أضع القصيدة الجديدة في إطارها التاريخي المناسب ؛ فهي محاولة لمحاذاة قامتين شعريتين فارعتين كلاهما في وصف آية عمرانية قائمة.
الأولى قصيدة البحتري السينية في وصف إيوان كسرى التي مطلعها:
صنت نفسي عما يدنس نفسي   وترفعت عن جدى كل جبس
ويقول فيها عن الإيوان:
وكأن الإيوان من عجب الصنـ        ـعة جوب في جنب أرعن جلس
يتظنى من الكآبة أن يبـ                 ـدو لعيني مُصَبِّح أو ممسي
مزعجا بالفراق عن أنس إلف        عز أو مرهقا بتطليق عرس
عكست حظه الليالي وبات الـ       ـمشتري  فيه وهو كوكب نحس
فهو يبدي تجلدا وعليه       كلكل من كلاكل الدهر مرسي
لم يعبه أن بُزَّ من بُسُط الديـ    ـباج واستل من ستور الدمقس
مشمخرا تعلو له شرفات       رفعت في رؤوس رضوى وقدس
ليس يدرى أصنع إنس لجن          سكنوه أم صنع جن لإنس
غير أني أراه يشهد أن لم               يك بانيه في الملوك بنكس

 ويقول في صفة (صورة أنطاكية وحرب الروم وفارس عليها) التي جعلت في الإيوان:
وهو يُنبيكَ عن عجائبِ قومٍ          لا يُشاب البيانُ فيهم بَلْبس
وإذا ما رأيتَ صورة أنطا      كية ارْتَعْتَ بين روم وفرس
والمنايا مواثل وأنوشر     وان يُزْجي الصفوف تحت الدرفس
في اخضرار من اللباس على أصـ      ـفر يختال في صبيغة ورس
وعِراكُ الرِجال بين يديه        في خُفوتٍ منهم وإغماض جَرْس
من مُشيحٍ يَهوى بعامل رمح        ومُليح من السنانِ بِتُرْس

وهي القصيدة التي كان عبد الله بن المعتز يقول عنها:  “لو لم يكن للبحتري إِلَّا قصيدته السينية فِي وصف إيوان كسرى -فليس للعرب سينية مثلها- لكان أشعر الناس”

الثانية: قصيد شوقي (الرحلة إلى الأندلس) التي كان البحتري فيها رفيقه وسميره , وقد بدأها بقوله بينه وبين نفسه:
وعظ البحتريَّ إيوان كسرى      وشفتني القصور من عبد شمس
قبل أن يبنيها صرحا شامخا مستهلا بقوله :
إختلاف النهار والليل ينسي         أذكرا لي الصبا وأيام أنسي
ويعطف على قصر الحمراء فيقول:
مَن لحمراء جُلِّلت بغبار الدهـ  ـر   كالجرح بين برء ونكس
كسنا البرق لو محا الضوء لحظا   لمحتها العيون من طول قبس
حصن غرناطة ودار بني الأحـ   ـمـر من غافل ويقظان ندس
جَلَّل الثلجُ دونها رأس (شيرى)     فبدا منه في عصائب برس
سَرْمَدٌ شَيبُه ولم أر شيبا              قبله يرجئُ البقاءَ ويُنسي

وبعد ما رأيت من الانبهار بالحضارتين الفارسية والأموية من هذين الشاعرين وجدتُ من تكريم المدينة العتيقة في هذا الموسم فرصة لتحية الجامع العتيق في شنقيط وإنه لخير الثلاثة , وأرجو أن لا أكون أنا شر الثلاثة .
 الله يشهد أني لا أعارضه       من ذا يعارض صوب العارض العرم

بدأتُ القصيدة بالقول:
  فاتني اليوم أن أكون ابن أمس    وجفاني يومي فكنت ابن نفسي
  وتحاميت في حواشي الليالي           غِبَّ سعد من الزمان ونحس

وخلصت إلى صفة الجامع العتيق:
 وأنادي التاريخ عن كثب من      قلعة العز عند محراب قدس
 مشرفا من منار هدي على الدهـ    ـر أعاطي القرون كأسا بكأس
  أقرأ الشأن في وجوه النوادي            وأناجي تحت الثرى كل رمس
   وأحيي من الحضارة وجها         نال منه الشحوب من غير بؤس 
  أكبرته القلوب فهو على قر    ب المدى يُحسر العيونَ ويُخسي
 وترى من ظواهر وبطاح             فتخال الذرى تنال بلمس
 وكأن الصفيح صحف تحاكي        من سجل الزمان ألوان طرس
دبجتها اليراع من كل عصر          فتحلت من كل حال بلبس
 وبتلك الرحاب ميقات نسك         رسه ذو الجلال أحسن رس
  صخرة في غلائل الشمس تغدو    وعلى موعد مع الظل تمسي

وختمتُ بالقول:
  ألهمتني شنقيط تلك المعاني      وبوادي النخيل أثمر غرسي
 ذاك عندي والدار داري وأهل الـ   ـبيت أهلي وحلس مغناه حلسي
 وبهم مفخري إذا جد جد الـ     ـفخر بالغر من تمميم وعبس
 وإليهم تشوقي وادكاري    إن دنا الأمر يوم غنم وبؤس
  لا لإيوان فارس ذي التصاويـ    ولا للقصور من عبد شمس

حظيتْ القصيدة بإعجاب الحاضرين وأذكر أن من بين الأوائل الذين تقدموا لتهنئتي الشاعر والصحفي اللامع سيدي ولد أمجاد , قبل أن أتلقى تحايا وتهانئ الأستاذ البارع والدبلوماسي السابق السيد سيدي أحمد ولد الدي الذي لم ينس أنه قد طالع كتابي (الشعر الموريتاني الملحون) منذ فترة.

أدى الجمع صلاة المغرب في الخيام وانعقد النادي لمتابعة النقاش , وبعد نحو ساعة اختتمت الجلسة فانفرط عقد الحاضرين والتأم جمع الضيوف للتوجه إلى منزل النائب السيد العربي ولد جدين حيث تقام مأدبة العشاء.

قطعت بنا السيارة (بطحاء شنقيط) مرة أخرى إلى الحي الإداري من المدينة حيث يوجد منزل النائب المضيف.
دخلنا الطراف الممدد المضروب بفناء المنزل , وقد أضاءت مصابيحه الوجوه من علية القوم وأعيان الوفود.

انتظم الجميع في حلقات حول الشيخ, ولم أكن في المقدمة فكنت أدرك بعض الكلام ويفوتني البعض , إلا أنني سمعت طرفة أتحف بها الشيخ جلساءه أصابت موقعها من نفسي ؛ فقد كنت أجد مشقة دائمة في التمييز بين الأيمن والأيسر من نوع الأحذية المعروف عندنا بـ (الأكراك) وقدسبق أن قدمتُ للشيخ أحذيته من هذا النوع عند باب مسجد (يغرف) فجعلتُ الأيمن عن يساره والأيسر عن يمينه فبادر إلى احتذاء ما قدمتُ على اليسار برجله اليمنى وما قدمت على اليمين باليسرى دون تعليق , وكأن كل شيء كان على ما يرام , وسيتكرر نفس المشهد في أكجوجت أثناء رحلة العودة , يروي الشيخ لجلسائه عن أحمد سالم بن مانو قوله “إنه لا يلبس (الأكراك) مخافة أن تذهب به إلى جهة لا يريدها”.

وفي سياق آخر أخذ أحد الجلساء يتلو من حفظه مقطعا من مقال باللغة الفرنسية ، علمت بعد ذلك أنه مقال في موضوع التعريب كان الشيخ محمد المختار قد كتبه لمجلة arabca   الفرنسية سنة 1959 .

بعد انتهاء مراسيم المأدبة ودع الشناقطة ضيفهم الكريم على أمل اللقاء في فرصة قريبة سنتحدث عنها لاحقا. وعدنا إلى (الزيرة) للسكون في ليلها التهامي استعدادا لاستئناف رحلة العودة.

الشيخ محمد بن بتار بن الطلبة
الشيخ محمد بن بتار بن الطلبة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق