الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

غرباء الأوطان والأهواء / ذ. السيد أحمدو الطلبة

 

لعل أول من تحدث عن غرباء الأوطان في شعره امرؤ القيس الكندي حين جاز مع رفيقه الدرب الحاجز بين بلاد العرب والعجم:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

وأيقن أنا لاحقان بقيصرا .

 

ولم تزل قرائح المكلومين بسهام الغربة تبدئ في المعنى وتعيد، وشعر الغربة في الغالب يطبعه الحزن ورقة العاطفة .. من قديم شعر الغربة ما ذكر القالي وغيره عن يحيى ابن طالب الحنفي وكان رجلا كريما يتداين في قرى الضيف وسد خلة المحتاج، فركبه دين فادح فتوجه إلى بغداد مستجديا الخليفة هارون الرشيد، فأقام مدة واشتاق إلى مرابع “اليمامة”وأعلام “قرقرى” ومناهل “الحجيلاء” فذهب يوما يشيع رفيقا من أهل اليمامة أراد القفول إلى بلاده، فلما جلس الرفيق في الزورق المتجه تلقاء اليمامة اغرورقت عينا يحيى وأنشأ يقول:

أحقا عباد الله أن لست ناظرا

إلى قرقرى يوما وأعلامها الخضر ?

 

أقول لموسى والدموع كأنها

جداول ماء في مساربها تجري

 

ألا هل لشيخ وابن ستين حجة

بكى طربا نحو اليمامة من عذر ?

 

كأن فؤادي كلما مر راكب

جناح غراب رام نهضا إلى وكر ….

 

وفي نفس هذه الرحلة يقول يحيى:

أيا أثلات القاع من بطن توضح

حنيني إلى أطلالكن طويل

 

ويا أثلات القاع قد مل صحبتي

مسيري، فهل في ظلكن مقيل ?

 

ويا أثلات القاع قلبي موكل

بكن، وجدوى خيركن قليل

 

ألا هل إلى شم الخزامى، ونظرة

إلى قرقرى قبل الممات سبيل ?

 

فأشرب من ماء الحجيلاء شربة

يداوى بها قبل الممات غليل

 

أريد هبوطا نحوكم، فيردني

إذا رمته دين علي ثقيل .

 

وقد سمع هارون الرشيد الغناء بهذه الأبيات فأمر أن يقضى دينه، ولكن صدر الأمر السامي بعدما سبق سيف الأجل العذل …

 

وقد بلغ المعري من الرقة غايتها في خطابه لبرق الكرخ:

أيا برق ليس الكرخ داري، وإنما

رماني إليها الدهر منذ ليال

 

فهل فيك من ماء المعرة قطرة

تغيث بها ظمآن، ليس بسال?

 

ومن رقيق شعر الغربة قول فتى لم تسمه الرواة شام البرق من صوب أوطانه، وكان قد جلا هو وقومه عن بلادهم بسبب الجدب :

ألا يا سنا برق على قلل الحمى

لهنك من برق علي كريم

 

لمعت اغتذاء الطير، والناس نوم

فهيجت أحزاني، وأنت سليم

 

فهل من معير طرف عين خلية

فإنسان طرف العامري كليم

 

رمى طرفه البرق الهلالي رمية

بذكر الحمى وهنا، فبات يهيم ..

 

ومن رقيق شعر الشناقطة في الغربة أبيات شهيرة من شعر “ول عبيد الرحمن” بعد مقام طويل خارج “تجگجه” :

تغربت عن بطحا “تجگج”، وليتها

درت ما يعاني من ولوع غريبها

 

وأفنيت في أرض سواها شبيبتي

فلم يبق مني اليوم إلا نصيبها

 

بلاد بها نيطت علي تمائمي

وأول أرض مس جلدي تريبها .

 

ومن أجود شعرهم أخيرا في ذلك أبيات أوحتها غربة حضرموت اليمن ( محمد الحافظ السالك ولد الطلبة) وصف فيها أيام الربيع في “بلاد العقل” وصفا بالغ الجودة :

نفس الغريب تشوقت لبلادها

ذكرت مشاكلها بها وجناسها .

 

ذكرت مجر ذيولها فيها، وإذ

تجري الأماني بينها أفراسها .

 

وتطاللت من حضرموت لكي ترى ال

دنيا لدى ذات النبوغ وناسها .

 

وتمثلت لمم الثمام، وقد جرى

نفس النسيم عشية فأماسها .

 

والطلح أخضله الربيع محليا

أغصانه بحليه فأناسها .

 

ولها أصيل الهاتفين مشوق

ومحرك بهتافه إحساسها .

 

ولربما يصطاد صوتا سمعها

فيصيد من بين الجفون نعاسها .

 

ومن طريف شعر محمد الحافظ في موضوع الغربة قوله وهو في مطار الدوحة عابرا إلى الوطن، وقد أعوزه من يتكلم معه بلسان عربي في بلد عربي:

مطار الدوحة الغناء فيه

ترى عين الفتى ما يشتهيه

 

فمن نزل له يأوي مريح

إلى روض ببوان شبيه .

 

كهمك إن حللت عليه يوما

(ولكن الفتى العربي فيه …)

 

 

وأما غرباء الهوى فقوم شتى، يجمعهم الحب وتفرقهم المشارب والظروف ..

منهم قوم مقيمون في أوطانهم بين أهليهم، بيد أنهم لم يطب لهم الثواء تحت وطأة بعد الأحبة :

وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة

غزال أحم المقلتين ربيب .

 

فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى

ولكن من تنأين عنه غريب .

 

وبعضهم هجر الأوطان وهان عليه النأي عن الألاف والإخوان، ورضي بحياة الذل والمسكنة في جوار محبوب قد لا يتاح منه اللقاء:

يقولون من هذا الغريب بأرضنا

أما والهدايا إنني لغريب !

 

غريب دعاه الشوق واقتاده الهوى

كما قيد عود بالزمام أديب

 

وبعضهم أرغمته شؤون ما على العودة لذويه، إلا أنه لم يقر قلبه ولم تهدأ جوانحه ولم يسكن ليله:

طال ليلي وبت كالمجنون

واعترتني الهموم بالماطرون

 

صاح حيا الإله حيا ودورا

عند أصل القناة من جيرون

 

عن يساري إذا دخلت على الدا

ر، وإن كنت خارجا فيميني

 

فلتلك اغتربت بالشام، حتى

ظن أهلي مرجمات الظنون ….

 

ومن غربة الهوى ما ذكر نصيب عن نفسه، وإن كان في ذلك ما فيه:

ألا حي قبل البين أم حبيب

وإن لم تكن منا غدا بقريب

 

تهام أصابت قلبه مللية

غريب الهوى، واها لكل غريب!

 

ومن بديع ما جادت به قرائح العلماء في موضوع الغربة قول أبي سليمان الخطابي:

كأني غريب بين بست وأهلها

وإن كان فيها جيرتي، وبها أهلي

 

وما غربة الإنسان من شقة النوى

ولكنها والله من عدم الشكل

 

وقول ابن دقيق العيد:

إذا كنت في نجد وطيب هواءه

تذكرت أهلي باللوى فمحجر

 

وإن كنت فيهم ذبت شوقا ولوعة

إلى ساكني نجد، وعيل تصبري

 

فقد طالما بين الفريقين موقفي

فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري?

 

وإلى أبياته نظر الشيخ محمد سالم ولد عدود:

خلوا النفوس وحبها أجناسها

وبلادها، واستجلبوا إيناسها

 

نهفو لناس لا نلائم أرضهم

ونحب أرضا لا نلائم ناسها

 

فإذا أتينا الأرض لم نتناسهم

وإذا أتينا الناس لم نتناسها

 

كالظبية الأدماء، نغص عيشها

أن لا تضم قرينها وكناسها

 

وحديث الغربة طويل يصلح للتصنيف، وحسب صباحيات ذي المجاز منه هذا ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق