آفات الشعر / أ. السيد أحمدو الطلبة
الناس يدركون إجمالا محاسن الشعر ويتَغَنّون بها، ولذلك قد يكون الحديث عنها ضربا من الإغراء في الوسط ..
لكنَّ آفاتِ الشعر وجرائرَه باب لا يهتدي إليه كثير من الناس، إلا أن الممارسين للشعر يعرفونه جيدا ..
من آفات الشعر التي نشأت مع نشأته أنه كثيرا ما يكون سببا للفُرقة بين الروح والجسد، فقد قتل عمرو بن هند طرفةَ الشاعر في ريعان شبابه بسبب تشبيبه بأخته وتصغيره بأخيه، وقتل الخليفة المهدي بشارَ بن برد بسبب أبيات هجاه بها فأقذع وأسفّ، كما قُتل صالح بن عبد القدوس بسبب أبيات من شعره ليس فيها حق لمعيّن:
والشيخ لا يترك أخلاقه …. حتى يُوارى في ثرى رمسه .
إذا ارعوى عاد إلى جهله …. كذي الضنا عاد إلى نُكسه ..
وسُحَيم صاحب بني الحسحاس الذي قتله سيده بسبب تغزله بابنته …الخ
وهو باب رحيب، فقد أُلّف في من قتل من الشعراء ..
ومن آفاته القديمة أن الشاعر تصدر منه عفوَ الخاطر كلمةٌ أملتها قريحة معطاء، فتلحقه بسببها تسمية تصحبه إلى الأبد مثل “صريع الغواني” التي أصبحت علم مسلم بن الوليد بسبب قوله:
صريع غوان راقهن ورقنه …. لدن شب حتى شاب سود الذوائب .
وكذلك “عائد الكلب” لعبد الله بن مصعب بسبب قوله:
مالي مرضتُ ولم يعُدني عائد
منكم، ويمرض كلبكم فأعود .
و”جران العود” عامر بن الحارث النميري، بسبب قوله:
خذا حذرا يا جارتَيَّ، فإنني
رأيت جران العَود قد كاد يصلح .
ومن آفات الشعر أنه قد يسبب للشاعر حرمانا لم يكن منه بالحسبان، كما وقع للشاعر الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع مع الخليفة المامون، فإنه رثى الأمين بن الرشيد لما مات وقال في رثائه له:
هلّا بقيت لسدّ فاقتنا …. أبدا، وكان لغيرك التلف .
قد كان فيك لمن مضى خلَف …. فاليوم أعوزَ بعدك الخلَف .
فلما تمت للمأمون الخلافة طلب أن يُنتخَب له جماعة من الأدباء ينادمهم، فكان ضمن الأسماء المقترحة الحسين بن الضحاك المذكور فقال: أليس القائل: وكان لغيرك التلف، والله لا أرى وجهه، فحُرِم من المامون الذي طالت مدته في الخلافة ..
ومن تلك الآفات أن الشاعر قد يكون سببا لبلاء يعُمّ عشيرته كلها، وذلك حين يعتدي على من هو أشد منه حنَكا فتزوي جواني الحرب من لم يجرم، ومن ذلك الباب البلاء الذي جرّ الراعي النميري لقبيلته من هجو جرير الذي يقول فيه عنهم:
فلو وضعَت شيوخ بني نمير …. على الميزان ما وزنوا ذبابا .
ومنها البيت المشهور:
فغض الطرف إنك من نمير …. فلا كعبا بلغتَ ولا كلابا .
يُحكى أن امرأة مرّت على فتيان من نُمير فأمعنوا فيها النظر، فقالت لهم: يا معشر نمير والله ما امتثلتم فيَّ قول الله تعالى (قل للمومنين يغضوا من أبصارهم) ولا امتثلتم فيَّ قول الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير ….
وقد كانت نمير قبل هجو جرير من جمرات العرب ومن أشرف قبائلهم ..
ومن آفاته أن الشاعر يقول بيتا فتتلقّفه العامة في كل مكان فيكون سببا لإزعاجه أحوجَ ما يكون للراحة، ومن هذا الباب ما يُذكر عن ابن نُباتة السعدي أنه حدّث عن نفسه أنه بينما كان ذات ظهيرة في دهليز بيته قائلا، إذ سمع دقا على الباب فقال: من؟ فقال: رجل من أهل المشرق، فقال: ما حاجتك؟ فقال: أسألك أأنت القائل:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب، والموت واحد .
فقال: نعم، فقال: أرويه عنك؟ فقال: نعم، فانصرف السائل، وفي نفس اليوم بعد العصر سمع دقا آخر على بابه، فقال: من؟ فقال: رجل من أهل المغرب، قال: ما حاجتك؟ قال: أسألك أأنت القائل:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره الخ
فقال: نعم، فقال: أرويه عنك؟ فقال: نعم وانصرف السائل، قال ابن نباتة: فعجبت من وصوله إلى الشرق والغرب ..
وهذه القصة مذكورة في كتب الأدب هكذا، ويُخَيَّل لي أنها لُعبة تواطأ عليها بعض المُجّان وتقاسموا أدوارها، ولعل ابن نباتة الذي لم يقابل السائلَين بل اكتفى بتكليمهما من خلف الباب غفَل عن ذلك أو تغافل، والله أعلم ..
ومن إزعاج العامة للشعراء بإنتاجهم، ما سمعتُ من أحاديث طُرَق أدباء الحي أن المختار ولد حامد أيام عمله في دار الثقافة كان ذات يوم خارجا من العمل راجعا إلى البيت في وقت حار، فرآه طلبة إحدى المدارس وكانوا قد خرجوا لحينهم من امتحان في مادة النحو، وبينهم جدال محتدم في إعراب كلمة وردت في بيت من شعر المختار، فصاحوا: ها هو المختار نفسه تعالَوا نرفع له الخلاف، وأحدقوا به وهم يرددون البيت سائلين عن الإعراب فأجابهم بظرافته المألوفة: القصيدة كلها لا محل لها من الإعراب ..
ومن آفات الشعر أنه قد يسبّب خيبة الأمل، حدَّث شاعر مفلق أنه سهر ليلة من ليالي التِّمام في إنشاء قصيدة يريد تقديمها للمشاركة في مسابقة نظمتها دولة الإمارات العربية ورصَدَت للفائز فيها جائزة ماليّة مُغرية، وجَهِد في ملاحقة السيارات المتوجهة صباحا إلى العاصمة، حتى تمكن من تسليم القصيدة لأحد الإخوان مؤكدا عليه الطلب أن يسلّمها لسفارة الإمارات قبل منتصف النهار نظرا لاستعجالها، ورجع للمنزل وترك أشغاله ذلك اليوم ليتفرّغ للتخطيط للمستقبل الواعد وتوزيع المال المرتقَب على الديون والمصارف، ولما أظلّت عودة السيارات مساء تلَقاها بفارغ الصبر ليسأل الأخ عن الرسالة هل وصلَت وِجْهتَها، فقال له الأخ في برودة أعصاب: نعم أوصلتُها لحانوت أهل فلان في “كبّتال” ..
وكل ما تقدم ذكره من آفات الشعر يُعتبَر سهلا جلَلا، وإنما البليّة العظمى والمصيبة الكبرى في الشعر أنه قد يُكسب الشاعرَ قبولا عند الثقلاء وقربا من نفوسهم ..
حدَّث شاعر، قال: خرجتُ ذات عشية وعندي أمر مستعجل أودّ أن أقضيه قبل الليل، فرأيتُ من بُعد إنسانا أستثقله وبينما أنا أفكر في حيلة الخلاص، لم أشعر إلا وأنا بين أحضانه وأنفاسه تُصْعِد وتنحدر على وجهي، وبعد لحظات من الاحتضان لم أعرف خلالها هل أنا في الأرض أم في السماء أم أني معلَّق بينهما، منّ الله بالانفكاك وفي الروح بعض رمق وفي النفس بقية حشاشة، وإذا به يخاطبني في أريحيّة: إنك لَشاعرٌ كبير، ولقد ندمتُ يومها ندامة الكُسَعيّ على اليوم الذي قررت فيه أن أكون شاعرا ..
ومن طريف آفات الشعر ما حدّث به شاعر من أنبه شعراء موريتانيا أنه سافر ضمن وفد شعراء إلى إحدى المدن في استقبال رئيس سابق، وأنهم لقوا في ذلك اليوم البرْحَ من العسكريّين المشرفين على التنظيم الذين يطلعون عليهم فجأة بهراواتهم ويطردون الشعراء بقسوة ويشكون من كثرتهم، وتارة ينادونهم قائلين: هلموا أيها الشعراء والمغنون لإلقاء ما عندكم، وقضَوا يومَهم بين خطتي خسف، وهو مشهد خلّده الشاعر المذكور بأبيات ظريفة:
وارحمتا لفُتُوّ الشعر، إنهمُ
من بين بستى وأهليها غريبونا .
ظلوا يهيمون في الأوداء، يتبعهم
فيها لفيف من الأجناد غاوونا .
دُعوا فلَبّوا، ولكن أُحصِروا فهمُ
يُدعَون حينا، وأحيانا يُدَعُّونا .
فيهم تساوى الأعالي والأسافل ف
(الزيدون يدعون، والهندات يدعونا) .
وأخيرا أستسمح المفتونين بالشعر ومحاسنه إن كنت قد فاجأتُهم هذا الصباح بالهجوم على الشعر، وأقول لهم إني لستُ في ذلك مبتدعا فقد ذمّ الشعرَ قديما أحدُ شيوخ الفن، وهو أبو تمّام بقوله:
لا تحسبنّ الشعر كل فضيلة
ما الشعر إلا فتنة وخبال .
الهجو قذف، والرثاء نياحة
والعتْب ضغن، والمديح سؤال .