الليل والأرق / ذ. السيد أحمدو الطلبة
أكثر ما ابتلي به ليل العاشقين غناء الحمام وتخافق البروق وإلمامة الطيف ..
وأرقني بالري نوح حمامة … فنحت، وذو الشجو الحزين ينوح .
على أنها ناحت ولم تذر دمعة … ونحت وأسراب الدموع سفوح .
ولبعضهم:
لقد هتفت في جنح ليل حمامة
على فنن وهنا وإني لنائم .
كذبت، وبيت الله لو كنت عاشقا
لما سبقتني بالبكاء الحمائم .
وبعضهم أرق الحمام كما أرقه الحمام:
رب ورقاء هتوف في الدجى … ذات شجو هتفت في فنن .
ذكرت إلفا وعهدا صالحا … فبكت حزنا، فهاجت حزني .
فبكائي ربما أرقها … وبكاهاربما أرقني .
ولقد تشكو فما أفهمها … ولقد أشكو فما تفهمني .
غير أني بالجوى أعرفها … وهي أيضا بالجوى تعرفني .
وأما حديث البروق فمن أقدمه ما في شعر امرئ القيس الكندي:
أرقت له وصحبتي بين ضارج … وبين تلاع يثلث فالعريض .
ومن ذلك:
ألا يا سنا برق على قلل الحمى …الخ
رمى طرفه البرق الهلالي رمية … بذكر الحمى وهنا فبات يهيم .
ومنه:
أأن شمت من نجد بريقا تألقا … تبيت بليل امأرمد اعتاد أولقا .
ومنه لأحد المغمورين:
أرقت لبرق لاح في فحمة الدجى … فذكرني الأوطان والمنزل الرحبا .
فلما رأت عيني التي كاد حبها… يؤرقني شرقا ويقتلني غربا .
صرفت عناني في يد الشوق مطلقا … وفتشت عن قلبي، فلم أجد القلبا .
وأما الطيف الذي يلم ليقطع النوم ثم يرحل لغير رجعة، فمنه طيف بشار:
لم يطل ليلي، ولكن لم أنم … ونفى عني الكرى طيف ألم .
نفسي يا عبد عني، واعلمي … أنني يا عبد من لحم ودم …
ومنه طيف أحدهم:
ألا طرقتنا مية ابنة منذر … فما أرق النيام إلا كلامها .
وحديث الطيف طويل جدا … ومن أشهره طيف البحتري الذي تردد في شعره كثيرا:
طيف لعلوة لا ينفك ياتيني … يصبو إلي على بعد ويصبيني .
تحية الله تهدى، والسلام على … خيالك الزائري وهنا يحييني ….
قديما كان الليل موعد العاشقين مع همومهم ومواجدهم، فللنابغة الذبياني:
وصدر أراح الليل عازب همه … تضاعف فيه الحزن من كل جانب .
ولآخر:
يضم إلي الليل عازب حبها … كما ضم أزرار القميص البنائق .
ولئن كانت للمحبين ليال مضنية، فقد أتيحت لبعضهم ليال سعيدة حالفه فيها الحظ وافتر له السعد، ومن أذكر تلك الليالي وأطيبها ليلة السفح “الرضوية” :
ياليلة السفح هلا عدت ثانية … سقى زمانك هطال من الديم .
ماض من العيش ….الخ
بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى … يلفنا الشوق من فرع إلى قدم .
يولع الطل بردينا، وقد نسمت … رويحة الفجر بين الضال والسلم .
وبات بارق ذاك الليل يوضح لي … مواقع اللثم في داج من الظلم .
وأكتم الصبح عنها وهي غافلة … حتى ترنم عصفور على علم …..
ومنها ليلة العرجي:
باتا بأنعم ليلة وألذها … حتى بدا وجه الصباح المسفر .
فتلازما عند الفراق صبابة … أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر .
وليلة عمر ابن أبي ربيعة التي تحدث عنها حديثا مستقصيا ختمه بقوله:
فلما تقضى الليل إلا أقله … وكادت توالي نجمه تتغور .
أشارت بأن الحي قد حان منهم … هبوب، ولكن موعد منك عزور ….
ومنها ليلة القائل:
حبذا ليلتي بتل بونا … حيث نسقى شرابنا ونغنى .
ومررنا بنسوة عطرات … وشراب وقرقف فنزلنا .
حيثما دارت الزجاجة درنا … يحسب الجاهلون أنا جننا .
ولذلك فقد كذب أحمد ابن الحسين “المانوية” الذين يعتقدون أن الظلمة إله الشر:
وكم لظلام الليل عندي من يد … تخبر أن المانوية تكذب .
على أن المتنبي كانت له ليال من الأرق عصيبة لم يؤرقه فيها الحمام ولا البرق ولا الطيف، وإنما أرقه ضيف من أسقام الأبدان كان ياتيه على موعده بانتظام، (حمى المتنبي):
وزائرتي كأن بها حياء … فليس تزور إلا في الظلام .
فرشت لها الطنافس والحشايا … فعافتها، وباتت في عظامي .
أراقب وقتها من غير شوق … مراقبة المشوق المستهام .
ويصدق وعدها، والصدق شر … إذا ألقاك في الكرب العظام ….
شتان ما بين ليالي المتنبي وليالي دمشق المسروقة:
وكانت في دمشق لنا ليال … سرقناهن عن ريب الزمان .
جعلناهن تاريخ الليالي … وعنوان المسرة والأماني .
نام الخلي وسهر الشجي، ولكن:
ما أطال النوم عمرا، ولا قص … صر في الأعمار تطويل السهر ..