أدبيات الوفاء / ذ. السيد أحمدو الطلبة
الوفاء بالعهود والرعي للذمام مما جادت فيه قرائح الشعراء منذ العصور الأولى للشعر …
ذلك أن العرب أمة تميزت بأخلاقها السامية، تلك الأخلاق التي تممها ديننا الحنيف وعززها بالوحي السماوي الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ..
من وفائيات العرب الأوائل ما ورد في أمالي القالي عن أحد الأعراب يذكر صديقا له وفى حقوقه وأثقل كاهله بالأيادي والمنن:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي
أيادي لم تمنن، وإن هي جلت .
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
ولا مظهر الشكوى، إذا النعل زلت .
رأى خلتي من حيث من حيث يخفى مكانها
فكانت قذى عينيه حتى تجلت .
ومن تلك الوفائيات الرائعة ما سجل ضيف المهالبة عنهم على سجل التاريخ، فذهب المهالبة ولم يذهب ذلك الذكر الجميل:
نزلت على آل المهلب شاتيا
بعيدا عن الأوطان في زمن المحل .
فما زال بي إكرامهم وافتقادهم
وبرهم، حتى حسبتهم أهلي .
ولكمال خلق الصحابة رضوان الله عليهم كان يروقهم هذا الغرض الشعري، فكانوا يتمثلون به كلما حضرت دواعيه، فحين وقف علي كرم الله وجهه على طلحة ابن عبيد الله مقتولا تمثل فيه بقول أحد الأعراب:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه
إذا ما هو استغنى، ويبعده الفقر .
فتى لا يعد المال ربا، ولا ترى
به جفوة إن نال مالا ولا كبر .
كما تمثل سيدنا أبو بكر رضي الله عنه في الأنصار يوم بني النضير وقد أصروا على تخصيص المهاجرين بالفيء مع بقائهم على ما كانوا عليه من مشاركتهم في الأموال، بقول طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت
بنا رجلنا في النائبات وزلت .
أبوا أن يملونا، ولو أن أمنا
تلاقي الذي لاقوه منا لملت .
ولما يقتضيه الوفاء من تأدية الحقوق كاملة غير منقوصة، احتج النابغة الذبياني على النعمان ابن المنذر الذي برجوه ويخافه بوفاء جلسائه له، طالبا منه أن ينظر إليه بعين الإنصاف في وفائه لقوم أكرموا مثواه وكفوه نصب الكد في تحصيل أسباب لقمة العيش:
ولكنني كنت امرأ لي جانب
من الأرض فيه مستراد ومذهب .
ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم
أحكم في أموالهم وأقرب .
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم
فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا .
ولم يقبل الحطيئة من قومه اللوم على ولائه الصادق لبني شماس ابن لأي، إذ شتان بين من يأسو الكلوم ومن ليس بيده إلا الملامة:
وإن التي نكبتها عن معاشر
علي غضاب أن صددت كما صدوا .
أتت آل شماس ابن لأي، وإنما
أتاهم بها الأحساب والكرم العد .
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم
من اللوم، أو سدوا المكان الذي سدوا .
تداعت هذه الشوارد الأدبية على ذهني من هنا وهناك على غير سابق موعد، عندما وقفت في تصفح “أرشيف” المذاكرات _والشيء بالشيء يذكر_ على مساجلة شعرية بين الشيخين الأديبين محمد سالم ولد عدود والمختار ولد حامد رحمهما الله، ورد فيها ذكر الوفاء كموجب للشعر لم يوجد غيره ..
هذه المساجلة البديعة أفادنيها أحد أهل “قلة الفائدة” الذين أجدني موثقا بديونهم التي تتجاوز طاقتي المحدودة ..
قال محمد سالم:
ما إن رأينا معشرا أظرفا
من آل ديمان ولا ألطفا .
إن أنصفت أيامهم أو صفت
لم يذكروا وقت الصفاء الجفا .
أو إن هفت أوأوجفت أوجفت
لم ينسهم عهدالجفاء الصفا .
شهادة ليس لها موجب
فى وقتنا الراهن إلا الوفا .
فقال المختار:
سلام على البيت المبارك بيته
فذلك بيت العلم ينشر ميته .
تذكرت يحيى والأخين وصنوهم فياليتنى جاورت يحيى وليته .
وجلدة بين الأنف والعين سالما
مجيد قصيد الحي كلا وبيته .
وتلك ومحمود المقاصد والذي
هو البحر من أي النواحى أتيته .
نتيجة غرس ناجح ومبارك
كماينتج الغرس المبارك زيته .
تغمد الله تربتي الشيخين بشآبيب الرحمة والرضوان، وفي ذكرهما مسك ختام لأحاديث الوفاء ومكارم الأخلاق …