من أدبيّات البرقع / ذ. السيد أحمدو الطلبة
من أدبيّات البرقع
رائدُ الأدب يرِدُ البارض والجميم ويمتاح الرنق والزلال، ويطرق كل باب ويدخل كل مدخل …
ذلك عذر من لم يحضره هذا الصباح إلا بعض أدبيات البرقع ..
تردّدَ ذكر البرقع والنصيف والنقاب كثيرا في شعر العرب القدامى، ذلك أن الخَفَر كان سيما المرأة العربية التي تصون محاسنها عن الابتذال، ولا تترصَّد بشِراكها قلوبَ البرءاء الغافلين، فكان البرقع صِوانَ مفاتنها وحِرْزَ أخلاقها، ولذلك كان سفور المرأة عند ذوي الفطانة من العرب نذيرَ الخطر لكونه غير مألوف، فعندما سَفَرت ليلى الأخيلية لتوبة ابن الحمير -وذلك ما لم يعهد منها – نجا بنفسه من قتل محقق بسيوف أوليائها:
وكنتُ إذا ما زرتُ ليلى تبرقعَتْ / فقد رابني منها الغداة سفورُها .
وأحسن النابغة في الاحتراس حين وصف سقوط نصيف المتجردة:
سقط النصيف، ولم تُرد إسقاطه / فتناولَتْه واتقتنا باليد .
وإن كان بهذا البيت فتح على نفسه بابا من النقد لا يُحمَد ..
وإذا كان أبو تمام طلب من “إحدى بنات الحارث ابن مناه” أن تُلقيَ نصيفها لعله يرى من محاسنها ما يعلم أن رؤيته مطلب بعيد المنال:
إحدى بنات الحارث ابن مناه / بين الكثيب الفرد فالأمواه .
ألقي النصيف، فأنتِ خاذلة المها /أمنيّةُالخالي، ولهو اللاهي .
فإن شوقي اشتكى من ضرر الجمال المكشوف وطلبَ صيانته:
صوني جمالكِ عنا، إننا بشر / من التراب، وهذا الحسن روحاني !
أو فابتغي فلَكا، تأوينه ملَكا / لم يتخذ شَرَكا، في العالَم الفاني .
ومع ذلك كله يبدو أن البراقع قد تخون ربّاتِها، وتبوح بما أودعنها من أسرار:
عمركَ الله هل رأيتَ بدورا / طلعت في براقع وعقود ؟
راميات بأسهم ريشها الهُدْ / بُ، تشقُّ القلوبَ قبل الجلودِ .
وقد ذم البرقعَ بعض الشعراء، ومن طريف ذلك قول ذي الرمة:
جزى الله البراقع من ثياب / عن الفتيان شرا ما بقينا .
يُوارين الملاحَ فلا نراها / ويخفين القباحَ فيزدهينا .
ومنه قول آخر:
إذا بارك الله في ملبس / فلا بارك الله في البرقع .
يريكَ عيون المها غرة / ويكشف عن منظر أشنع .
وفي البرقع حكايات أدبية كثيرة، منها أن ركبا من الحجيج مروا بقباء، فسنحت لهم نظرة من فتاة بارعة الجمال قد سقط نصيفها، فلما فطِنَت بهم يرمقونها سترت وجهها ببرقعها، فاستجدوها لتُسفر لهم عن محياها، فأدبرت تضحك منشدة:
وكنتَ إذا أرسلت طرفكَ رائدا / لقلبك يوما أتعبَتْكَ المناظرُ .
رأيتَ الذي لا كله أنت قادر / عليه، ولا عن بعضه أنت صابرُ .
ومنها مكيدة عزّة لكثيّر التي بيّنَتْ أنه كان مدّعيا في حبه لها، وذلك حين تنكرت له وسألته متنقبة: من أنت، فعرّفها بنفسه فقالت له: لم تترك عزة في قلبك متسَعا لأحد، فقال: لو كانت عزة أمة عندي لوهبتها لكِ، فسَفرت عن محياها قائلة: وهذا أيضا كذب الوشاة ؟!
ومنها أن جيشا حاصر قلعة حتى كاد يدخلها، فاجتمع أهل القلعة يتشاورون في أمرهم، فقالت لهم فتاة ذات برقع: أنا أكفيكم شرهم، وذهبت تتخلل صفوف الغزاة وتسأل عن الأمير حتى وقفت عليه، فقالت له: ألستَ القائل:
نحن قوم تذيبنا الأعين النج / لُ، على أننا نذيب الحديدا .
وترانا لدى الكريهة أحرا / را، وفي السلم للحسان عبيدا .
فقال: نعم، فأماطت البرقع عن وجهها لتقيم عليه الحجة، وأمرته بالرحيل فانصرف منهزما بعد ما أوشك أن يدخل فاتحا منتصرا …
وكأن سيدي عبد الله بن محم العلوي يصف هذا المشهد بقوله:
لله يوم شهدنا / وغاه غيرَ عجال .
ذوو العمائم فيه / أسرى ذوات الحِجال .
وتترك الأُسْدَ صرعى / ظباؤُه بالنبال .
ويبدو أن المحافظة التي يرمز لها البرقع، والتي كانت سائدة في المجتمع العربي في القرون الأولى، سَرعان ما بدأ غزو أساليب الحضارة والمدَنيّة يضايقها، ففي النصف الأول من القرن الرابع نجد المتنبي يصف بعض الغانيات ببعدهن عن محدَثات الحضارة وبِدَعها:
ما أوجه الحضر المستحسنات بها
كأوجه البدويّات الرعابيبِ .
حسْنُ الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب .
أفدي ظباء فلاة، ما عرفن بها
مضْغَ الكلام ولا صَبْغَ الحواجيبِ .
ولا خرجن من الحمّام ماثلة
أوراكهن، صقيلات العراقيب .
وأختم بأدبيات شنقيطية تتعلق بنساء لسن من ذوات البراقع، منها قول المختار رحمه الله، وكان قد وفَد على المغرب ضمن وفد رسمي، وفي مراسيم الاستقبال مدّت له امرأة يدَها تريد المصافحة:
مدت إليّ يدَّها / وقد كرهتُ مدَّها
وردُّها من واجبي / وما استطعتُ ردَّها
والحمد لله على / أن لم تمدَّ خدَّها
والحمد لله على / أية حال بعدها .
ومنها قول الأستاذ عبد الله السالم ولد المعلى وقد أحرجته سيدات مصريات بالمصافحة حين كان ضمن وفد رسمي موريتاني مبعوث إلى القاهرة، فوضع يده على قلبه قائلا:
أصافحكن يا “سِتّاتِ” مصر / بقلب، لا يدٌ عنه تنوبُ .
وما ترْكُ التصافح بالأيادي / يضر، إذا تصافحت القلوب .
ومن ذلك أن الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله كان في القاهرة ومعه جماعة من المشايخ، وفي يوم من الأيام خرجوا من الفندق الذي يقيمون فيه، ولما كانوا عائدين ضلوا الطريق، فبينما هم يبحثون رأوا تمثالا لامرأة متبرجة أشد التبرج، وهو مجاور للفندق فاهتدوا به، فقال الشيخ محمد سالم:
ضلت مشايخ سُبْلَها فهداها / ما لم يكن من قبل فيه هداها .
تمثال غانية دقيق خصرها / بيضاء، لما ينكسر ثدياها .
ومن ظُرَفه التي تتصل بالموضوع بيتان سمعتهما منه في برنامج تلفزيوني، وصَفهما بأنهما فتوى عليها مسحوق أدبي:
أدني من الجلباب أمَّ سام / عليكِ، فالسرُّ في الاحتشام .
وخففي من وطأة المكياج / ما أطيب الحسنَ بلا علاج .
رحمه الله ..