أحاديث النسوان / ذ. السيد أحمدو الطلبة
أكثرَ عمر ابن أبي ربيعة في شعره من الرواية عن النساء، بل كاد شعره يكون مختصا بهذا الغرض، فتارة يروي عن المرأة أحاديث تدور بينها وبين صواحبها في خلوات خاصة، لم يَدُر بخَلَدها يوما أن تلك الأحاديث ستكون فيما بعدُ أهازيجَ العشاق وأحاديثَ السُّمَّار وصباحيات “الوتساب”:
زعموها سألت جاراتها
وتعرَّت ذات يوم تبترد .
أكما ينعتُني تبصرنني
عمْرَكنَّ اللهَ، أم لا يقتصد ؟
فتضاحكن وقد قلن لها
حسنٌ في كل عين تود .
والأكثر أن تكون تلك الروايات تتضمن ثناء عليه وتمجيدا لشخصه:
أشارت بمدراها وقالت لأختها
أهذا المغَيْريُّ الذي كان يذكر ؟
أهذا الذي أطريتِ نعتا ؟ فلم أكن
وحقك أنساه إلى يومِ أقبَر !
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت
فيَضحى، وأيما بالعشي فيَخصَر .
أخا سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات، فهو أشعث أغبر .
قليلا على ظهر المطية ظلُّه
سوى ما نفى عنه الرداء المحبَّر .
ومن رواياته التي تلوح عليها سمات الوضع، بل هي من أعظم فِرْيَته ما روى عن سكينة بنت الحسين رضي الله عنها:
قالت سكينة والدموع ذوارف
منها على الخدين والجلباب .
ليت المغيري الذي لم نجزه
فيما أراد تصيدي وطلابي .
كانت ترد لنا المنى أيامه
إذ لا نلام على هوى وتصابي .
خُبِّرتُ ما قالت، فبتُّ كأنما
يُرمى الحشا بنوافذ النشاب .
أسكين ما ماء الفرات وطيبه
مني على ظمإ وطيب شراب .
بألذ منك وإن نأيت، وقلما
ترعى النساء أمانة الغُيّاب .
وبعيدا عن غرور المُغَيْري تحضرني نماذج من الرواية عن النساء، منها قول أبي نواس راويا عن قعيدة بيته، وقد أجاد ما شاء:
تقول التي عن بيتها خف مركبي
عزيز علينا أن نراك تسير .
أما دون مصر للغنى متطلَّب ؟
بلى إن أسباب الغنى لكثير !
فقلت لها، واستعجلتها بوادر
جرت، فجرى في جريهن عبير .
دعيني أكثر حاسديك برحلة
إلى بلد فيه الخصيب أمير .
ومنها قول أبي فراس:
تسائلني من أنت؟ وهي عليمة
وهل بفتى مثلي على حاله نُكْرُ .
فقلت كما شاءت، وشاء لها الهوى
قتيلُكِ، قالت أيهم؟ فهم كُثْرُ .
فقلت لها لوشئتِ لم تتَعَنَّتي
ولم تسألي عني، وعندكِ بي خُبْرُ .
وقول ابن الجهم:
وما أنس مِ الأشياء لا أنسَ قولها
لجارتها ما أولعَ الحب بالحُرِّ .
فقالت لها الأخرى فما لصديقنا
مُعَنًّى، وهل في قتله لكِ مِن عذر ؟
فقالت أذود الناس عنه، وقلما
يطيب الهوى إلا لمنتهك الستر .
وأيقنتا أني سمعت، فقالتا
من الطارق المصغي إلينا وما تدري .
فقلت فتى إن شئتما كتم الهوي
وإلا فخَلَّاعُ الأعِنّةِ والعذر …
ويوجد هذا الأسلوب في شعر أغلب الشعراء حتى ابن الحسين في بروج كبريائه، فهو القائل “متخلصا” :
مرت بنا بين تِرْبَيْها، فقلت لها
من أين جانسَ هذا الشادن العرَبا ؟
فاستضحكت، ثم قالت: كالمغيث يرى
ليث الشرى، وهو من عجل إذا انتسبا .
وإن كان المتنبي لا يسمح بوقته لمثل هذه المحادثات التي يعتبرها من بنيات الطريق:
وللخود مني ساعة، ثم بيننا
فلاة إلى غير اللقاء تُجاب .
ومن أطرف الروايات عن المرأة ذلك الحديث الطويل الممتع الذي قص علينا أبو بكر الفاضلي في أعجوبته “البادة” التي أبدع فيها على غير منوال سابق:
وعاذلة هبت تلوم على مهل
تعيرني بالفقر والعجز والكسل .
وتظهر إشفاقا علي بزعمها
وتوسعني نصحا بضرب من العذل …الخ
ومن آخر ذلك وأظرفه حوار المختار مع أهل البيت وهو يتأهب للسفر إلى مدينة “كولخ” :
أصبحت بالأمس لدى أندرا
وقبل ذلك بمذرذرا .
وقبل ذلك لدى أهلنا
من حيث بالغاب استكف العرا .
وآخر العهد بهم ضحوة
عند وداعنا حديث جرى .
أنابذ أنت لنا بالعرا ؟
قالت، ولم تترك لنا من قِرى .
قلت: فإني قاصد كولخا
مدينة الشيخ، فتاة القُرى .
وأحمل الكيس معي فارغا
لأسرع الأوب به أبجرا .
فاستضحكت تفترُّ عن لؤلؤ
رطب، فقلت: التمرَ والسكَّرا .
وفي شعر أستاذنا محمد بتار حوار طريف استخدم فيه المتحاوران كلمات من مفردات اللغة الفرنسية:
وجارية سمراء قلت لها: “جُ دْوا”
ألاقيكِ، قالت: يا أخا العُرْب “ساسكْوا” ؟
فقلت لها إني مشوق متيم
ولا بد لي من أن ألاقيكِ “كلْكسْوا” !
فقالت من المسلوب ؟ قلت لها: أنا
فقالت من المطلوب ؟ قلت لها “ستْوا” .
لا أعرف هل تصلح “أحاديث النسوان” لمفاكهة الندماء، على أي حال ذلك ما أتت به الشبكة …
