اللام والطويل / ذ. السيد أحمدو الطلبة
وُلِع العُشّاق برَوِيِّ الياء في بحر الطويل، فكان متنفَّسا لكثير منهم أبدوا فيه وأعادوا، كيائية المجنون:
تذكرت ليلى والسنين الخواليا
وأيام لا نخشى على اللهو ناهيا …
ويائية جميل:
وخبرتماني أن تيماء منزل
لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا .
فهذي شهور الصيف أمست قد انقضت
فما للنوى ترمي بليلى المراميا ؟
كما وُلع شعراء الصوفية بالتائيَّات … كنتُ أسمع في المذاكرات هذه النظائر، وأتحفَتْني كتبُ الأدب بلاميات طويليَّات يمكن أن تفتح بابا في النظائر لكونها تتلاقى في غرض النسيب، وتجمعها الرقة والسلامة من التكلف، أولها قصيدة لجميل منها:
إذا ما تناثَينا الذي كان بيننا
جرى الدمع من عيني بثينة بالكحل .
كلانا بكى أوكاد يبكي صبابة
إلى إلفه، واستعجلت عبرة قبلي .
إلى قوله:
خليلَيَّ فيما عشتما هل رأيتما
قتيلا بكى من حب قاتله قبلي ؟
وقد جاراه عمر ابن أبي ربيعة بقصيدة يقول فيها:
فلما تواقفنا عرفتُ الذي بها
كمثل الذي بي، حذوَكَ النعلَ بالنعل .
فسلمتُ واستأنستُ خيفة أن يَرى
عدو بكائي، أو يرى كاشح فعلي .
فقالت -وأرختْ جانب السجف- إنما
معي فتكلمْ غيرَ ذي رِقبة أهلي .
فقلت لها ما بي لهم من ترقب
ولكن سري ليس يحمله مثلي .
ومن هذا الباب لصريع الغواني:
أديرا عليَّ الراحَ لا تشربا قبلي
ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي .
فيا حزني أني أموت صبابة
ولكن على من لا يحل له قتلي .
فديت التي صدت وقالت لتِربها
دعيه، الثريا أقرب منه من وصلي .
وعارضه ابن عبد ربه صاحب كتاب “العقد الفريد” معارضة فريدة في الحسن:
أتقتلني ظلما، وتجحدني قتلي
وقد قام مِن عينيك لي شاهدا عدل ؟!
أطلاب ذحلي ليس بي غير شادن
بعينيه سحر، فاطلبوا عنده ذحلي .
أغارَ على قلبي، فلما أتيته
أطالبُه فيه أغار على عقلي .
أقول لقلبي كلما ضامه الأسى
إذا ما أبيتَ العز فاصبر على الذل .
برأيكَ لا رأيي تعرضتَ للهوى
وأمركَ لا أمري، وفعلكَ لا فعلي .
وجدتَ الهوى نصلا من الموت مغمدا
فجرَّدتَه ثم اتكأت على النصل !
ومن رقيق هذا النمط أبيات وردت في حماسة أبي تمام:
فيا عجبا للناس يستشرفونني
كأن لم يروا بعدي محبا ولا قبلي .
يقولون لي اصرم يرجع العقل كله
وصرم حبيب النفس أذهلُ للعقلِ .
فيا عجبا من حب مَن هو قاتلي
كأنيَ أجزيه المو ة من قتلي .
ومن بينات الحب أن كان أهلها
أحب إلى قلبي وعينَيَّ من أهلي .
ولا شك أن هذا الرويَّ والبحر قد ضُرِب لهما بسهم وفير في رقيق الشعر، وحسبك دليلا على ذلك أنك تجد منه مثالا في شعر المتنبي الذي لا تعرف الرقَّةُ إلى شعره سبيلا:
عزيزُ أُسًى مَن داؤُه الحَدَقُ النُّجْلُ
عياءٌ به مات المحبون مِن قبلُ .
فمن شاء فلينظر إليَّ، فمنظري
نذيرٌ لمن ظن الهوى أنه سهلُ .
ولو لم يكن في قصيدته هذه إلا أنها تحيل القارئ ولو من بُعد إلى لامية ابن الفارض لكفاها ذلك حسنا:
هو الحب، فاسلمْ بالحشا ما الهوى سهلُ
فما اختاره مُضنى به وله عقلُ .
وعش خاليا، فالحب راحته عنا
وأوله سُقم، وآخره قتل .
نصحتكَ علما بالهوى، والذي أرى
مخالفتي، فاختر لنفسكَ ما يحلو .
وفي هذا الروي والبحر يحضرني من رقيق شعر الشناقطة قول ابن أحمد يوره:
مغان بذات الطبل لا غبَّها الوبلُ
ولا غبَّ أياما مضين بها قبلُ .
بها ابتلَّ جفني، والحشا متحرّقٌ
ورقَّ اصطباري بينها، والهوى عبْلُ .
غمزتُ بذات الطبل عيني عن البكا
فجادت بأضعاف كما يُغمَز الطبلُ .
وغُرَّةُ هذه المقَطَّعات عندي ويتيمة عِقدها أبيات ابن عبد ربه، لولا أنه كاد يَصِمُها باستهلاله الحادّ والمخالف لآداب الحب، وذلك في استعماله أسلوب الإنكار (أتقتلني؟) ثم وصف القتل بأنه ظلم ثم اتهامها بجحود القتل ثم استدعاء الشهود وكأنه في جلسة محاكمةٍ قضاتُها يتأهبون للنطق بالحكم، ولو لم يكن الشاهدان مُقلَتَي القاتل لكانت الأبيات مردودة بالعيب، بيدَ أن ملاحة الشاهدَيْن شفعت للأبيات شفاعة لا تُرَدّ …
ويذكرني أسلوبه العتابيّ الحادّ بقول البحتري مخاطبا عَلْوة:
وأراكِ خنتِ على النوى من لم يخن
عهد الهوى، وهجرتِ من لا يهجر .
فقد سمعتُ نقدَ هذا الخطاب على البحتري ممن يعرفون محاسن الشعر ومعايبه ويضعون الهِناء مواضع النقب ، والعجب أن ما سماه البحتري “خيانة” اعتبره بعض العشاق ساعة طيبة من ساعات الحب ومِنحةً من مِنَحه:
وأحسنُ أيام الهوى يومُك الذي
تروَّع بالهجران فيه وبالعتب .
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى
فأين حلاوات الرسائل والكتْبِ ؟
وقد كان من شأنهم العِيُّ بين يدي الأحبة ولو كانوا مظلومين:
حُججي عليكِ إذا خلوتُ كثيرة
وإذا حضرتِ فإنني مخصوم .
لا أستطيع أقول أنتِ ظلمتِني
واللهُ يعلم أنني مظلوم .
فأما تأليف الحُجج والتفنُّن في أساليب الإقناع لإثبات ظلمهم فأمر يتنافى مع ذل الحب وأخلاق الهوى:
ليس يُستحسَن في شرع الهوى
عاشقٌ يُحسِن تاليفَ الحُجَجْ ….