مواقف المُوَدِّعين / ذ. السيد أحمدو الطلبة
.من أحرج المواقف التي قد يمر بها إنسان في محطات حياته لحظات التوديع التي تقطع لذة القرب وتهذم حبل التواصل، وطالما تفَنّنَ الشعراء في وصفها وشكوا من أفاعيلها ..
في طبقة الجاهليين هوّل الأعشى توديعَه لهريرة وركبها المرتحل:
وَدّعْ هريرةَ، إن الركب مرتحِلُ / وهل تطيقُ وداعا أيّها الرجل ؟
وما زال الشعراء يصفون من متاعب ذلك الموقف ويذكرون من حسراته عصرا بعد عصر،
أجاد ما شاء ذو الرمة في وصفه لما قبل التوديع من تخالج الرأي حول الرحيل والمقام، وارتقابه بفارغ الصبر لما تُسفر عنه تلك المجاذبات، هل تكون الغلبة لدعاة الرحيل أم لدعاة المقام:
وقالوا أقيموا واظعنوا وتنازعوا / وكل على عيني وسمعي وباليا .
وشديدٌ غايةً ذلك الوداع الذي وصف أحمد بن الحسين ولو أنه إذا قُلِع منه التخلص إلى مدح أولياء نعمته يقلّ الذي يبقى:
نودّعُهم والبينُ فينا كأنه / قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلقِ .
وقد كان أسلوبه في توديعه لسيف الدولة بديعا وفريدا حيث جعل من الوداع فرصة لتوصيل رسالة عتاب وديّ قلب الموقفَ سحرُ بيانها:
إن أنت ودّعتَ قوما قادرين على / أن لا تفارقهم فالراحلون همُ .
ومن رقيق التوديع قول ابن المعلم:
أأحبابنا إن الدموع التي جرت / رخاصا على أيدي النوى لغوال .
وقول ابن زريق في شكواه المشهورة من طول ترحاله وضربه في مناكب الأرض تنقيبا عن لقمة العيش:
ودعتُه وبودي أن يوَدّعني / صفوُ الحياة وأني لا أودعه ….
وأما سلطان العاشقين ابن الفارض فهو القائل في وصفه للتوديع:
وبما جرى في موقف التوديع من / ألم النوى شاهدتُ هول الموقفِ .
ومن مواقف التوديع المؤثرة في شعر الشناقطة ما وصف امحمد أحمد يوره في قطعته التي كانت خاصة بوصف أحد تلك المشاهد العصيبة:
تكلم منا البعضُ، والبعض ساكت
غداة افترقنا والوداع صنوف .
فآلت بنا الأحوال آخرَ وقفة
إلى كلمات ما لهن حروف .
حلفتُ يمينا لستُ فيها بحانث
لأني لعُقبى الحانثين عَروفُ .
لئن وقف الدمع الذي كان جاريا
لَثَمّ أمور ما لهنّ وقوفُ .
ومن جيده قول محمدُّ ولد محمدي في نسيب مديحيته النبوية:
إن الأحبة أودعوا إذ ودّعوا / في القلب شجوا لم يكن بموَدَّعِ .
وبلغ الغاية من الرقة محمدُّ النان ابن المعلى الحسني وهو يصف توديعه لركب استكمل عدته للانطلاق وأوشكت عيره أن تفصلَ:
لو تأملتَ والعميد بصير / بمواقيع البث والتذكار .
يوم شُدّت جمالُهم، فاستقلّتْ / ذُلُلا بالحُدوجِ والأبكارِ .
لرأيت الجمال يمشين هونا / بسواد القلوب والأبصار .
كما أجاد في وصفه لتوديعه للشيخ أحمدُّ ولد أحمذَيّ رغم أن رحلة الشيخ أحمدُّ لم تكن بالبعيدة:
لعمرك ما فارقتُ أحمد طائعا / وما كان لولا البينُ سريَ ذائعا …الخ
وكان القاضي محمد عبد الرحمن ولد السالك قبل ذلك بقليل جمعه معه مقيل وأنشده قصيدته التي يودع بها أهل المقيم وحلة الأربعين في نفس الرويّ والبحر:
نوى قل فيها أن نُفيض المدامعا / نجيعا، وأن تمسي القلوب جوازعا ..الخ
وطرِب “شاعر الدنيا” النانه طربا بالغا لسماعها، وقال له: هذا شعر مغربل ..
بعدما أوشكتُ أن أترك الخميس يمر مرور الأربعاء خطر بي هذا الموضوع في أواخر ضروريّ الإعداد، فكتبتُ بعفوية وعلى استعجال مما سنح وخطر بالبال، ولم أرجع لكتاب ولا تقييد، فذلك عذري هذا الصباح، وعلى أي حال فما هذه العناوين التي أكتب تحتها إلا شِباك أنصبها لتصيّد ما راق من الشعر ولذّ وطاب من الأدب، وإنما التعويل على مذاكرة الأدباء ومجاوبة الألبّاء ..