الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

الشعراء والشكوى / أ. السيد أحمدو الطلبة

الشعراء أمة تألف الشكوى والتبرّم (ولا تجد أكثرهم شاكرين)، فقد ملؤوا الطروس وسوّدوا الصحف عبر التاريخ بالشكوى وهي فنون في شعرهم وضروب، منها شكوى العشاق من الهجر ومن العذال ومن سهام المحاسن ومن أزمات الحب التي تعترض اللذات بالألم، ومنها شكوى ذوي الفاقات من قلة ذات اليد وضيق الحال، ومنها شكوى المواطن والمساكن التي تنبو ببعض الشعراء ….الخ

 

إلى الله أشكو نية شقت العصا

هي اليوم شتى، وهي أمس جميع ….

 

إلى الله أشكو بالمدينة حاجة

وبالشام أخرى كيف يلتقيان ؟

 

بالشام قومي، وبغداد الهوى، وأنا

بالرقمتين، وبالفسطاط جيراني .

 

وما أظن النوى تلقي مراسيَها

حتى تبلّغني أقصى خراسان !

 

ومن رقيق شكوى أزمات الحب قول القاضي ابن الآمدي في قصيدة:

 

واها له ذكَر الحمى فتولّها

ودعا به داعي الهوى فتأوّها

 

هاجت بلابلَه البلابلُ، فانثنت

أشجانه تثني عن الحلم النهى ..

 

فبكى جوى، وشكا أسى، وتنبّه ال

وجدُ القديمُ ولم يزَل متنبها .

 

وشكوى ابن دقيق العيد:

 

يا نزهتي أملي ببابك واقف

والجود يابى أن يكون مضاعا .

 

أشكو إليك صبابة قد أترعَتْ

لي في الهوى كأس الهوى إتراعا .

 

لا أستلذ لغير وجهك منظرا

وسوى حديثك لا ألذّ سماعا .

 

و من سعادة الشاكي عندهم أن يجتمع بالمشكوّ ويرفع إليه شكواه بعيدا عن وساطات الرسل:

 

سقى منى وليالي الخيف ما شربتْ

من الغمام، وحيّاها وحيّاكِ .

 

إذ يلتقي كل ذي دين وماطله

منا، ويجتمع المشكوُّ والشاكي .

 

وقد تمنى ابن الطثرية أن يتاح له ذلك اللقاء حتى يبثّ ما في جرابه من الشكوى:

 

أما من مقام أشتكي غربة النوى

وخوف العدا فيه إليك سبيل ؟

 

فديتُك أعدائي كثير، وشقّتي

بعيد، وأشياعي لديك قليل .

 

والعاشقون يجدون في شكوى بعضهم لبعض سلوة وراحة مما يقاسون:

 

لا تُخف ما فعلت بك الأشواق

واشرح هواك فكلنا عشاق .

 

فعسى يعينك من شكوت له الهوى

في حمله، فالعاشقون رفاق .

 

أما الشكوى من العاذلين والرقباء فبحر لا ساحل له في الشعر:

 

أحقا عباد الله أن لست واردا

ولا صادرا إلا عليّ رقيب .

 

ولا زائرا وحدي ولا في جماعة

من الناس، إلا قيل أنت مريب .

 

 

عذيري فيك من لاح إذا ما

شكوت الحب حرقني ملاما ..الخ

 

 

يلوم على حبي لعزة معشر

قلوبهمُ فيها مخالفة قلبي ..

 

وأبلغ ما قيل في ذلك قول ابن أحمد يوره:

 

وأظلم الناس من يُهدي الملام إلى

من لم يقاس من الأشواق ما قاسى

 

وما أحسن تظلّم الشيخ سيدي محمد من تلك الجماعة غير الطيبة:

 

والناس ألب عليهم واحد، فلذا

ما إن ترى من يواسيهم بإسعاد .

 

إما عذول وإما ذو مراقبة

أو زاعم النصح أو ساع بإفساد .

 

ومن شكواهم من المحاسن التي توردهم موارد تُعوزهم منها المصادر قول ابن أحمد يوره:

 

ألم يان للمشتاق أن يتظلّما

وأن يرفع الشكوى من الخد واللمى

 

هما فعلا بالقلب ما فعلا به

ولولاهما أمسى صحيحا مسلّما ..

 

 

أماشكوى الفاقة والإضاقة فمن الذين أكثروا منها في شعرهم جرير، ومنها:

 

إلى عبد العزيز شكوتُ جهدا

من اللأواء والزمن الجماد .

 

سنين مع الجراد تعرّقتنا

وما تُبقي السنون مع الجراد .

 

ومن أرقها وأعلقها بالنفوس القصيدة المشهورة لعوف بن محلم يشكو لعبد الله بن طاهر، وهو أحد أمراء خراسان ونبلائها:

 

أفي كل عام غربة ونزوح

أما للنوى من ونية فيريح .

 

لقد طلّح البين المشتّ ركائبي

فهل أريَنَّ البين وهو طليح ؟

 

عسى جود عبد الله أن يعكس النوى

فتمسي عصا التسيار وهي طريح .

 

 

ومن أغربها شكوى الكسائي للرشيد -حين كان مؤدب ولي عهده الأمين- يشكو من الوحدة في البيت:

 

قل للخليفة ما تقول لمن

أمسى إليك بحرمة يُدلي؟

 

ما زلتُ مذ صار الأمين معي

عبدي يدي، ومطيتي رجلي …الخ

 

ومن غُرر الشكاوي الشعرية أخيرا قصيدة كنت قد وقفتُ عليها في ديوان الأستاذ عبد الله السالم ولد المعلى يخاطب بها وزيرا في نظام سابق، وذلك عندما حل ضيفا عليهم في قريتهم، يحضرني من أولها:

 

هنيئا لنا أن زرت يا خير غائب

بما حل في إقليمنا من رغائب .

 

وأهلا بها من لفتة سنحت لكم

فعجتم علينا من صدور الركائب .

 

إلى أن يقول:

 

معالي الوزير اسمع حديثا أبثه

إليك، فقد أحضرتُ كل حقائبي .

 

بجلهة ذا الوادي، وفي سقط ذا اللوى

وبين السهول الدكن إحدى العجائب .

 

أناس حمتهم عفة ومروؤة

من ان يخضعوا يوما لأيدي النوائب ..الخ

 

ومن شكوى المواطن قول شاعر نبَتْ به مصر:

 

وأصبحتُ في مصر كما لا يسرني

بعيدا عن الأوطان منتزحا غرْبا .

 

كأنيَ فيها كامرئ القيس مرة

وصاحبه لما بكى إذ رأى الدربا .

 

فإن أنج من بابي زُويْلا فتوبة

إلى الله أن لا مسّ خفي لها ترْبا

 

ومن ذلك قول ابن أحمد يوره في مدينة اندر وقد قاسى من البعوض ما نغّص المُقام الرائق فيها:

 

اندرٌ فيه ما تحب النفوس

من مليح، لولا البعوض ودوسُ .

 

فيه أيد كأنهن بحور

ووجوه كأنهن شموسُ .

 

وشكوى البعوض في بيتي ابن أحمد يوره تذكرني بقول الحافظ المقدسي:

 

ثلاث باءات بُلينا بها

البقّ والبرغوث والبرغش

 

ثلاثة أوحش ما في الورى

ولست أدري أيها أوحش .

 

لقد شكا الشعراء من كل شيء حتى شكوا من أعمارهم، فقال طرفة:

 

سئمت تكاليف الحياة، ومن يعش

ثمانين حولا لا أبالك يسأم .

 

وقال لبيد:

 

أخبر أخبار القرون التي مضت

أدبّ، كأني كلما قمت راكع .

 

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع .

 

وقبل النهاية لا بد لنا أن نمزج حديث الشكوى هذا الصباح بحديث بعض الشعراء الشاكرين -وقليل ماهم- ليكون ذلك ختاما لذيذا يُنسي مرارة الشكوى ..

 

فمن الشاكرين  ابن هشام القرطبي الذي زيّن له نصحاؤه الرحيل عن قرطبة تنقيبا عن الغنى وتطلبا لأسباب الرخاء، لكنه لم يكن يرى في حياته بقرطبة داعيا للجلاء:

 

وأين يعدل عن أرجاء قرطبة

من شاء يظفر بالدنيا وبالدين ؟

 

قطر فسيح، ونهر ما به كدر

حفّت بشطيه ألفاف البساتين .

 

ومنهم القائل:

 

وكيف أرهب دهرا أو أراع به

وقد زكَأت إلى بشر بن مروان …

 

 

ومن أحسن الشكر قول أحدهم في الشعر الحساني:

 

وان گاع فذو ليام / كافين من لمشد

الم الاكحل فخيام / أهل اعل ول أحمد .

 

وقول آخر متبجحا ومتحدثا بالنعمة:

 

يلال ممتنِّ / يلال مسمنِّ

يلال معتنِّ / هح اص مخ البُ

بيان مسمنِّ / يالطلّابَ طلبُ .

عندي بيت وشمعَ / واعظيم نلبلبُ

وعندي ميعاد معَ / عيشة منت البُ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق