طمع الشعراء والعشاق / ذ. السيد أحمدو الطلبة
الطمع باب ظريف وشائق من أبواب الأدب، أعذبُه ما يتحدث به العاشقون عن أنفسهم، وأطرفُه ما يمتطيه الشعراء إلى صنائع أولياء نِعَمهم ..
أما العاشقون فالطمعُ تعِلّة المحرومين منهم ووقود نار الحب للمحظوظين منهم، فعندما يتعذر الوصال على بُسطاء المحبين يكون الطمع أنيسَهم في التوَحّد وسميرَهم في التهَجّد، فيتلقّون سارية الأنسام لعل في أنفاسها رسالةً تبشرهم بقرب اللقاء:
خلتُ الشمال شمولا إذ سكرتُ بها
سكرا بما لستُ أرجوه يُمَنّيني
أهدت إليّ أريجا من شمائلكم
فقلتُ قرَّبني من كان يُقصيني
وخلتُ من طمع أن اللقاء على
إثر النسيم، وأضحى الشوق يحدوني !
ولذلك دأبوا على ذكر تلك النسائم السارية، ومنها رياح الغَوْر التي أيقظت أشجان الشريف الرضي بعد الهجوع:
هبت لنا من رياح الغور رائحة / بعد الرقاد، عرفناها برَيّاكِ !
ثم انثنينا إذا ما هزّنا طرب / على الرحال تعلّلنا بذكراكِ ..
ولعل أصل ذلك كله ريح يوسف التي بشرت به يعقوب عليه السلام ..
وقد رأينا من المحبين من يؤرقه تخافق أنوار السيارات القادمة على الحي من صوب العاصمة طمعا أن يكون بين ركّابها حبيب قرّر أن يوافيَ على غير ميعاد، واختار أن يكون قدومه فجأة وطلوعه بغتة .. وهيهات فما يوم حليمة بسِرّ !
على أن منهم من حاول نصحاؤه أن يصرفوه عن شَيم خُلّب بروق تلك المطامع التي لا تصدُق فيما تُحَدّث ولا تفي بما تعِدُ:
يقول رجال الحي: تطمع أن ترى
محاسن ليلى ؟ مُت بداء المطامع !
وتلتذُّ منها بالحديث، وقد جرى
حديث سواها في خُروتِ المسامعِ
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها
سواها، وما طهَّرتها بالمدامعِ .
ومنهم من حاول أن يُقنع نفسه بذلك:
طمعت بليلى أن تريع، وإنما / تُقَطِّع أعناقَ الرجال المطامعُ .
أما أصحاب الحظوظ السعيدة من المحبين فالطمع مما يزيد نارَ حبهم ضَرَما، لأنهم كلما طمعوا في مطلوب ونالوه تشوَّفت نفوسهم لما وراءه ….
والحب ليس رواية شرقيّة / بختامها يتزوج الأبطال !
لكنه الإبحار دون سفينة / وشعورُنا أن الوصول محال .
ومثال العاشق المحظوظ الخليفة المامون الذي يقول في جارية علق قلبُه عشقَها:
أول الحب مزاح ووَلَعْ / ثم يزداد إذا زاد الطمعْ .
كل من يهوى وإن غالت به / رتبة الملك لمن يهوى تَبَعْ .
وإن كان عشق المامون فيه مغمز معروف ..
أما المدح فلا تتِمّ للشعراء فيه الإجادة إلا بدافع الطمع في نوال الممدوحين، وقد سُئل أحد الشعراء لماذا كانت مدائحك لفلان أحسن من مراثيك له، فقال: كنا نعمل على الرجاء واليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بُون بعيد ..
وسُئل الحطيئة من أشعر الناس؟ فأخرج لسانه وقال: هذا إذا طمع، وسُئل كُثَيِّر: لم تركت الشعر ؟ فقال: ذهب الشباب فما أعجب، وماتت عزة فما أطرب، ومات ابن أبي ليلى فما أرغب ..
ولعل جواب كُثَيِّر هو أصل ما عقَدَ أحد الشعراء بقوله:
قالوا تركت الشعر؟ قلت ضرورة / باب البواعث والدواعي مغلَقُ
خلت البلاد، فلا كريمٌ يُرتجى / منه النوال، ولا مليحٌ يُعشَقُ !
ومن المعروف في تصنيف الشعراء أن أشعر الناس النابغة إذا رهب وزهير إذا غضب وجرير إذا رغب ..
وإمامُ الشعراء الطامعين وحاملُ لوائهم المتنبي الذي يقول في كافور:
وغيرُ بعيد أن يزورك راجل / فيرجع مَلْكا للعراقين واليا .
فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا / لسائلك الفرد الذي جاء عافيا .
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب / يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا .
وإن كان قد برَّأ نفسه من رذيلة الطمع في إحدى قصائده، غير أنّ حالَه يُكَذِّب مقالَه:
وما شكرتُ لأن المال فرّحني / سيان عنديَ إكثار وإقلالُ .
لكن رأيتُ قبيحا أن يُجاد لنا / وأننا بقضاء الحق بُخّالُ .
ومن شعر المادحين الطامعين قول أبي العتاهية مخاطبا الخليفة المهدي وقد كان قلبه معلّقا بجارية من جواريه:
نفسي بشيء من الدنيا معلَّقة / الله والقائم المهديُّ يكفيها .
إني لأيئسُ منها، ثم يُطمعني / فيها احتقارك للدنيا وما فيها .
والطمع ضروب وفنون، منها ذلك الطمع الذي يقول أحد القوم الذين ابتلاهم الله به:
واعطف على ذل أطماعي بهل وعسى / وامنن عليّ بشرح الصدر من حرج .
ويقول أحدهم من الشناقطة المعاصرين:
وأقمتُ عند فِنائه متعرضا / طمعا أمدُّ إليه كفَّي أشعبا .
وذلك مسك الختام لصباحيات الطمع، قضى الله حوائج الطامعين المساكين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..