أدب وثقافةالأستاذ محمد بن بتار بن الطلبة

تعقيب على مقال حنفي “دولة الظرفاء”

علق الشاعر محمد ولد بتار ولد الطلبة على تدوينة ” دولة الظرفاء ” التي كان الشاعر والصحفي حنفي ولد دهاه خص بها ” مراسلون ” و هذا نص تعليق ولد بتار :

في تدوينته الطريفة عن “دولة الظرفاء” تحدث الزميل محمد الحنفي بأسلوب عفوي هادئ واسترسل ببراءة مثيرة في سرده للوقائع شبه اليومية لحياة هذه الدولة.

وإذا كانت طريقته تلك توحي بأنه لم يتجشم عناء حفر الذاكرة, ولم يحتج إلى القيام بعمل فني لاستعراض شريط تلك الذكريات الطيبة؛

فإنني بحكمي “شاهدا على العصر” في تلك الدولة أشهد أنه كتب ما كتب بمنتهى الدقة والأمانة،
وأنه استطاع بإضفائه صبغته الأدبية على الخاصة على أحداث عادية أن يجعل منها طرائف ونكتا غريبة مستملحة.

في حي (هيندايرسون) بمدينة (افيكاس) بولاية (تيفادا) بالشمال الأمريكي أدار محمد الحنفي عجلة الأيام فطوى مسافات زمنية ومكانية سحيقة حين أخذ عفو الخاطر وما علق بالذهن من مشاهد محضرية كان أحد نجومها البارزة ومن ثقافة تقليدية لم تزل تدعوه في أخراه، وتلاحقه في تقلبه يمينا و( يسارا) من هنا في أودية العُقل ومنابت الطلح والثمام.

وكأنه في ذلك على قدم سلفه وابن عمه ابن الأمين الشنقيطي الذي استخرج من حافظته نسخة من وطنه شنقيط بآدابها وتاريخها ومخططاتها أيام غربته بالقاهرة.!

كان محمد الحنفي رائدنا إلى المحضرة وكانت أحاديثه عنها ضمن الأسباب التي جعلتنا ننتجع مراتعها المستمرَأة.

أتذكر في هذه المرحلة أنني دخلت مع محمد الحنفي (المحضري) نقاشا حادا حول جملة (المدرسة تربي الأطفال) – ونحن إذ ذاك أطفال – حيث بذل وسعه في إقناعي بأن (المدرسة) ليست فاعلا للفعل الذي بعدها، وأن المعنى وحده غير كاف لتحديد وظائف الكلمات في الجمل، وأن ثمة شيئا يعرف بالصناعة النحوية هو العمدة في هذا المجال.

ولا أنسى ما كانت تثيره في نفسي كلمة (طدان) من استغراب حين أسمعه ينشد:
نظرت إلى طدان فقلت ليلى: هناك وأين ليلى من طدان

وأستحسن إنشاده:

عناني من صدودك ما عناني

وعاودني هواك كما بداني

إنهما بيتان عرفت من خلالهما البحتري الشاعر قبل أن أعرف من هو البحتري الطائي.
ولم يكن محمد الحنفي غائبا عن أول قرار اتخذه بمعاناة الشعر حين قلت أبياتا فضفاضة متحررة من جميع القيود , ليس فيها من عناصر الشعر إلا الغضب , أعبر فيها عن غضبي لما أوقع الصهاينة بإخواننا في “صبرا وشاتيلا ” لقد اقتربت في آخر المطاف حسب رأي محمد الحنفي- من الشواطئ الخليلية حين قلت:

واحتطامهم للمسجد الذي به

أتى النبيُّ للقاء ربه

التحقت بإخواني في المحضرة وقصتي مع الشعر لا تزال في بدايتها الأولى، وكان التقدم الكبير في المستوى لأخي محمد الحنفي محكاًّ لقريحتي بشكل منتظم، يمد لي يده فأتعلق بها، وربما ارتقى ذلك إلى مقاولات ذكر بعضها في تدوينته.

ثم إنه قرر ذات يوم أن يوقفني عند حدِّي، فعمل أبياتا في حرف الزاي لا أذكر منها الآن إلا قوله:

قُبطيّ شعرك دعه حيث نازعني

موسى قرضي له عن عاجل وكزا

كادت هذه الأبيات تقضي على بنات فكري في مهدها , إلا أنها لم تسلم من مقص شيخنا محمدي حفظه الله لما رأى فيها من التعجيز الذي لا يجوز؛ فتدارك الأمر بين الوكزة والقضاء. وبقي لي من هذه الواقعة رعب من حرف الزاي فلا يجد القارئ في ديواني (يتيمة البحرين) بيتا واحدا في هذا الروي.

كانت موهبة الشاعر محمد الحنفي وذكاؤه الفائق مصدر إزعاج بالنسبة له أكثر من غيره من منافسيه، وذلك لما يجده من عناء في إقناعنا -كلما جال فكره وجادت قريحته – بأن ما يأتي به هو من إبداعه وليس إيداعا أو اقتطاعا من غيره.

أذكر أنه أتانا يوما بلغز منظوم في هذين البيتين:

وبيضاء المحاجر ذات دلٍّ**كأنَّ ثُديَّها رمانتان

تطوف على الرجال ببرد خزٍّ**وعند الناس تدعى بالحصان

فلم نصدق أنه صاحب البيتين , وتشاغلنا بجداله عن جواب هذا اللغز وهو ما لا نعرفه حتى في هذه اللحظة.

ومن السجالات الجانبية التي شهدها هذا العصر ما وقع بيننا في بعض أزقة القرية حيث قلت له:

جيت ولا تڮدر تنجحد**لِلِّ لِ فيهْ الغايَ

لعلَّ ڮاعْ انجي الحدْ**ما عدتْ اتجيهْ امعايَ

فأجابني قائلا:

اسبڮت اتڮد ألا اتعود**لِلِّ لك فيهْ الغايَ

يغير إلا ج بوعمودْ**يمركه بوخشبايَ

لم يطعه الروي في إيراد المثل كما هو، لكنه أطاعته كلمة قضى بها حاجة في نفسه.
كان محمد الحنفي مستقلا بإبداعه ومكملا لأعمالنا، يقول في توشيحة لنظم عرفات في الطفيلييين (السَّكَّاكَ):

وإن على شرب الأتاي أوفى **تراه من حادي القلاص أوفى

والشاي حيثما غدا قيَّامَه **قامت على شاربه القيامه

لأنه سيشرب الأتايا **وذي بلية من البلايا

يملأ كأسه على التمام **ثم يقول روْزَة القيام

ومنهم المسامت المقابل **شغله عن الكلام شاغل

يمد كفه إلى الكؤوس **دون جميع الفتية الجلوس

وصاحب التعليق لا يعتمد **في قوله كأسك هذا “مجهد”

يندر في الكهول والعجائز **إذ كلهم عن ذاك جد عاجز

وعامل السكَّاك إن ألمَّا **بمقلة عميا وأذن صمَّا

ومجلس السكاك من قد انسحب **عنه فقد فعل شيئا يستحب

أما الذي يأتيك بالأخبار **جميعها ويسرد الطواري

فاصبرعليه فهو خير القرنا **ولا تعامله لذاك بالخنا..

وأخيرا وفي انتظار ما يكتبه باقي أفراد الدولة أقف عند هذه المواقف في “دولة الظرفاء” ليعلم أخونا العزيز محمد الحنفي أننا لا نسلمه ولا نضيعه، وأننا نعرف له سابقته, و نسمع لسان الحال ينشد في ثنايا تدوينته قول ابن الحاجب:

زمان كان الابياري فيه ** معلمنا وتغبطنا البريه

ونحن نردد ونتمنى لو يردد معنا:

حمى لا زال الابياري فيه** معلمنا وتغبطنا البريه

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق