دولة الظرفاء / حنفي دهاه
الحديث عن دولتي ذو شجون.. والدولة في الاصطلاح المحظري هي المجموعة التي تدرس معا في لوح واحد، وتجتمع للتكرار والتدارس حتى لا تنسى دروسها، فـ”من ترك التكرار لابد أن ينسى” .. ولا بد ممن يتقدم امام “لمرابط” ليقرأ درس اليوم ، ثم يتولى اولى “التكريرات”، ويطلقون عليه “حمار الدولة”، وهو عكس المصطلح لدى ابناء المدارس النظامية، حيث يوصف لديهم التلميد الكسول البليد، الفائل الرأي، بـ”الحمار”.. فقد سمي حمار الدولة حمارا، لأنه من يحملون عليه مهمة شرح عويص الدروس و مستعصيها..هو من يكون لديه لذكائه و قوة ذاكرته القدرة على استحضار أوابد وشوارد الدرس.
وكنت آنا وزميلي محمد ولد بتار من نتراوح على “حمار الدولة”.
بدأت الدولة بنا نحن الاثنين، حيث درسنا معا طرة الحسن ولد زين على لامية الأفعال، التي لم أصدق أنني أستكملتها حتي التحقت بحملة بلدية الركيز، شتاء 1987، وكنت حينها قد بدأت اصيخ لداعي اليسارية التقدمية، من خلال “المجموعة الكاملة لأعمال ماوتسي تونغ” التي كان قد أهداني إياها أحد أخوالي، والتي تهجيت من خلالها مفردات “العدالة الاجتماعية” و “البلوريتريا” و “صراع الطبقات”، قبل أن أطالع كاتما إيماني التقدمي “بيان” ماركس وفريدريك انجلز.
ظهرت وانا ابن اربعة عشر عاما في مهرجان بضاحية من ضواحي الركيز، في حملة 1987 .. كنت ألبس دراعة حمراء، بلون شعار الحملة، ولون الحرية الحمراء، التي كنا ندق بابها حينئذ بيد مرتعشة.. اتذكر انني كنت أصيح بحنجرتي الصغيرة، فيعيقها ضعف ذبذبات صوتها:
بطاقتي الحمراء يا مركز الأملْ … بحبك لا أصغي للوم ولا عذَلْ
ولم اعد أذكر من تلك القصيدة سؤي ذلك الحوار المتخيل:
يقولون لي لما رأوني مناصراً… لأهل العلى، والقول أكثره هزلْ
أأنت الى الحمراء تنسب يا فتى؟!… فقلت لهم -والقلب في جذل-: أجل!
فقالوا: أللخضراء أنت محايد؟!… وعندهم مال يضيق به المحل
فقلت لهم: بالمجد نفخر والعلى.. وبالعلم والتقوى بنا يضرب المثل
فقد يورث المال الكثير لأهله… هلاكا مدى الأيام، فالسم في العسل
لم تكن هذه أولى محاولاتي الشعرية، إلا أنها كانت أول قصيدة تسلم من مقص أستاذي محمدي، الذي حرصت على أن لا يراها قبل عودتي من الركيز، حتي لايأمرني فلا تسعني مخالفته بأن أودعها بطن الأرض، فلم يحن لها أن “تبرز” بعد.
فكم وأدت بأمره من بنات أفكار، قبل أن تستهل صارخة!
بعد عودتي “منسحبا” من حملة الركيز، شرعت أنا ومحمد في دراسة احمرار طرة ولد بونه، وقد التحق بنا عرفات واحمد بدي ومحمد فال ولد محمد حرمة، واتخذنا من منزل اهل السالك ولد الطلبه “مجلسا لقيادة الدولة” ، كنا نتخذ منه ضحى مكانا لـ”تكرارنا”وكنا نتعاقب علي صناعة الأتاي و شرائه، وكنت أنا ومحمد أمهر الدولة في صناعته.. وكانت “بوهاتي” لـ”الوالد عبد الله” كفيلة بأن توفر لنا ما نشاء من زاد: بسكويتا وفولا وعلب روز، إلى أن أصابتني عين احمد بدي سامحه الله، فقد شاء الله أن ضلّ ابن لـ”الوالد عبد الله” كان مصابا في عقله، ولم يعرف له طريق حتى الآن..فاقترح علي احمد بدي أن آرسل لعبد الله “بوهة” أطلب منه فيها أن يحضر أبنه المفقود أمامي، فذلك (حسب رأي احمد بدي) سيجعله يجدّ في العثور عليه. ورغم أنني ألححت علي احمد بدي فكرر “بارك الله” مراراً، إلا أن عبد الله أعاد لي “بوهتي” في اليوم الموالي، مع تعليقه المستفز: إن الطرة ليست ما أقرأ، ولكنها ما يسطره هو في دفتر ديوني.
فطويت كشحي، و رضيت بقضاء الجليل الجميل!
كانوا يسموننا دولة الظرفاء، فقد كنا نكثر التظرف.. ونصرف وقتا في المساجلات الشعرية. ولم تكن مساجلاتي أنا و ولد بتار أمرا جديداً. فقد حظي بلقب “فتى برينا” في أواسط الثمانينات بعد مشاعرة جمعتنا..
قلت له فيها:
محمد لم تزل ابدا علينا تباهي بالذي تهدي إلينا
عسى طوفان شعرك حين يهمي حوالينا يكون ولا علينا
فرد عليّ بقوله:
عليكم لاحواليكم سيهمي حَبِيي ماضيا لم يشكُ أينا
يجدد من ربوع الفكر بالٍ ويجلو من طخى الافكار رينا
فرددت عليه:
رأيتك في القريحة لا تبارى فشعرك لايقاس بما لدينا
فرم حذرا من الإسراف فيه او الإقتار لكن بينَ بينا
فقال:
نقشت على ربى أرض المعالي سطورا ما بلينَ ولا انمحينا
تبرهن عن مدى فكري وأني أكون مدى العصور فتى برينا
ربما من عذرنا إذا لم نكن في هذه المشاعرة حسني النحيزة الشعرية أننا لم نكد نتجاوز حينها السادسة عشر من أعمارنا.
من ضمن هذه المشاعرات التي جمعتني بولد بتار، أنه استقبلني عند عودتي من أول سفر لي الى السنغال بعد تطبيع العلاقات معها، عقب احداث التسفير التي كنت من ضحاياها.. ليقول لي ممازحا:
أيا من ليس يفتأُ عن دكار يعاقر من تذكرها عُقارا
أتذكر يومَ يومَ وأنت رهنٌ تصيح بك الولائد نارَ نارا
وتعلوك العصي فلا دثار يصون لك الفخار ولاشعارا
علقت تفيض من عرفات وَجدٍ وترمي من لوافحها جمارا
فلا يُسليك عن لمياء إلفٌ ولستَ تَلذّ بعد دكارَ دارا
فكان ردي عليه:
أَتعجبُ أن أثارَ لي ادّكارا زمان قد تصرّم في دكارا
لياليه يهون عليّ فيها وحقك أن أضيرَ أو أن أُضارا
فكم خِلنا أزاهير التصابي من الروض النضير بها نُضارا
لو أنك قد رعيت بها رياضا رعيت بها قبلت لي اعتذارا
فكم جار له في القلب ذكرٌ وإن كان الزمن عليه جارا
يخاطبني بنار ثَمّ يصلي بها قلبي من التذكار نارا
وقد أراد صاحبي أن يترجم تلك الممازجة زجلا حسانيا، فقال لي:
آيه، إياك اجبرت اندكار وتمثنيت امللي فأوكار
اندكار وريت التسدار فاندكار وقريت العين
عاكب ذ الريت من التصكار فاندكار وليْ الوذنين
واتحمار فبل المطار من اشوي امحاذي ثمين
واياك اجبرت امليكَ سار من دراس الفلانيين
واياك اعطاك من التهجال شهره واسنين اعليك احنين
واياك الل ظابط مزال ذاك السابك شهره واسنين
فكان ردي عليه:
دكار ألا مزال وحال دكار الّ نعرف مزال
ما متغيرشِ فم اكبال فأوكارُ تحتاج لتبيين
أَلّا خظت اشهر في التعدال غالبني وصفو بيه الزين
خظت اعل ساحل لستقلال موخظ نازغ فيه اللعين
وابكين امللي ننظال عليه مسيكين ابكين
تسداري فيه ألا مزال ماكنِّ منو حزم امتين
والتسدار فذيك المحال عليه اقضَ قرن العشرين
دكار إلا ظابط عيمان فيه انفوت شهره وسنين
ماننساهم كنت، ونسيان شهره وسنين اثرُ هيين؟!
وهنا، أتذكر انني لم أكن ألتقي بعدها المرحوم جمال ولد الحسن، إلا خاطبني ضاحكا: امسيكين ابكين!
كان المرحوم جمال احدَ ابناء محظرتنا، وكان متابعا لأنتاجات إبنائها الأدبية، وكانت له مشاعرات شعبية وفصيحة مع بعض الطلبة، وكنت نعتدّ كثيرا بتقييمه لما ننتجه، وكان قد أشاد بعد ذلك بكتاباتي في صحيفة “القلم” في أحد مجالس الطلبة، حيث أعتبرني “أفضل من يكتب بالعربية في موريتانيا” حسب قوله. وقد حضرته مرة يمازج عبد الله ولد محمد حرمه الذي أدار عليه كؤوس أتاي قاس، فقال:
يا صاحبي دون الأصاحب والذي أفضي له بالسر بين الناس
لاتسقني إلا أتايا ليّنا كالتبر حين تصبه في الكاس
فالأولياء علي جلالة قدرهم لايقدرون علي الأتاي القاسي
وهو بهذه الابيات يعارض محمد ولد احمد يوره حين يقول:
يا صاحبي دون الاصاحب والذي أفضي إليه بكل سر غامض
لاتسقني إلا شرابا باردا (…………………..………….)
فالأولياء على جلالة قدرهم لايقدرون على الشراب الحامض
وقد درج على هذا النحو آخر الظرفاء محمد فال ولد عبد اللطيف في “رسالة الكواس”، حيث قال:
لاتاتِ قوما إن أتيت بيوتهم أُلفيت بين مبارك ومرابض
قد قدمولي إذ أتيت بيوتهم قدحا ملوهم من شراب حامض
من مروب مرت عليه ثلاثةُ خلطوه بالماء السخين الفائض
لم أدر إذا خلطوه هل جاءوا به من منهل أو من غدير غامض
أو “من ندىً أو ذاب بعد جموده أو كان سؤر بهيمة أو حائض”.
وقد وُفق ولد عبد اللطيف في تضمين جملة من مختصر الشيخ الخليل، فكانت له شطرا من بحر “الكامل” يجري عليه حكم “اللقطة” شرعا. فقد قال خليل “يرفع الحدث وحكم الخبث بالمطلق وهو ما صدُق عليه اسم ماء بلاقيد، و أن جمع من نديً او ذاب بعد جموده أو كان سؤر بهيمة أو حائض أو فضلة طُهارتهما أو كثيرا خلط بنجس لم غيره أو شُك في مغيّره هل يضر”.
كانت دولة الظرفاء كما يسمونها خلية نحل، لا تقصر في تكرار ولامراجعة، إلا أنها كانت تعطي للدعابة جانبا، وكثيرا ما كنا نستهدف بدعاباتنا الامين “عرفات”، فهذا محمد فال ولد حرمة يقول له:
احمد ُ بدِ عالم في النحو جل وعرفات علم على جبل
اما أنا فقد نظمت في مناقبه أرجوزة طويلة، اقول فيها:
هذا وإن عرفات ابن فتن قد قلّ من يشبهه في ذا الزمن
إذ أنه قد أحرز المآثرا عن والديه كابرا فكابرا
تراه في استتريكه تروكي لكنه مستسحن السلوك
وكل من طلبه اشتراء زادّ يضحك إذ يجيبه بـ”حتّ زاد”
ولم يكن أمين نجل فتنِ يوما يُرى مشتغلا بالفتن
مذهبه في “الحال” الانتقال وقد يسيطر عليه الحال
لاينفع العنان منه جذبُ يوما إذا اعتراه ذاك “الجذبُ”
يسعى إلى طرق أهل الفضل تبركا مما لهم من فضل
مذهبه في الأكل ماهُ دارك هو “التبادر محدُ خالك”
ورغم طول هذه الارجوزة فهذا ما علق بذهني منها. وقد رد علي الامين بارجوزة احسن سبكها.. و وخزني فيها بإبرة تَشُكّ الإهاب، حين قال:
ولطريق جده قد حنَفا “وما يلي المضاف ياتي خلفا”
وكأنه أراد أن يلمح الى حَنَف رجلي، الذي كان احمد بدي يمازحني فيه دائما بما كان بنو تميم ينشدون في الاحنف بن قيس:
والله لولا حَنَف في رجله ما كان في فتياننا من مثله.
تماما كما لم يكن احمد بدي سامحه الله يقبل أن تنتظرني الدولة كثيرا، حين اتغيب في إسفاري، منشدا قول ولد الطلبه:
ومثلي لا يلوي علي الظلعان
ومن ذكرياتي تلك، أن عرفات تحدانا مرة في قصيدة ترحيب ببعض الشرفاء، قال فيها:
وإني سابق الشعراء فيكم و إني لن أحيد ولن أحادا
فقال له ولد بتار:
أعد نظرا تعود أن يُعادا وعاند من تطيق له عنادا
فأضفت بيتا:
فشعرك إذ يقاس بما لدينا يعاكسه شذوذا واطرادا
فقال محمد:
هوادي الربرب المذعور منه تصيخ لجمعنا عُربا تهادى
فقلت:
منادى الشعر إن نادى ترانا نُضمّ له كما ضمّ المُنادى
ولم يعد يعلق بذهني منها غير هذه الابيات.
واحيانا تكون هذه المداعبات أكثر رومانسية، ويؤسفني أنني لا اتذكر مشاعرتي مع محمد فال ولد محم حرمة، حين كتب لي:
الى دعد تحدى كل حد فتى أضحى أخا وله بدعد
تحداني بذلك إذ تعدّى حدودا في تعديها تحدي..الخ القطعة
اما ردي عليه فلم اعد أتذكر منه إلا هذا “المبدأ الاشتراكي”:
فإن وصال دعد ليس حكرا ولا ملكا لفرد دون فرد
ومن تلك الاخوانيات ما كتبه لي ولد بتار مرة:
أجبار الراغب ما يكود اتلَ عاكب تفراكُ
غير ألا عسك لاتعود شاف ازراكُ ما ظاكو
فأجبت:
لاهي نسعَ فأجبار بعدْ الّ بالي مشتاكو
واسوَ توساع اخلاك حدْ واسوَ تظياك اخلاكو
ذلك جزء من ذكريات لو ارخيت لها العنان لسالت بأعناق مطيها الأباطح.. ذكريات عهد ذهبي جمعنا اخوانَ صفاء، نختلس لحظات الأُنس من الدهر الغافي، ندلَ الثعالب.. إلا أننا استبدلنا بذاك الدهر أيام حنة، فمحمد فقيه وشاعر مجيد، تخضع لسطوة إبداعه رقاب القوافي، غير أنه أنكرها حين تبرقعت ولبست جبة الرمز والإيحاء وتحررت من القيود الخليلية واطلقت العنان للاستعارة المكنية والتخييلية. أما عرفات ففقيه يفتي في الحلال والحرام، ويتتبع آثار الصالحين.. ومحمد فال ولد حرمة موظف في وزارة العدل، غلبته طباعه الظريفة أن يكون “تواصليا” جاداً، فهو إسلامي مع وقف التنفيذ.. لا يزال يطالعنا ببعض مقطوعاته الشعرية التي تتألق كأقراط العذارى.. اما احمد بدي، ففقيه تاجر، يمنعه التقيد بقواعد البيوع الشرعية من تحقيق الربح في نواكشوط. أما أنا فصعلوك، محش حرب، خلعه قومه.
وهي الأمور كما شاهدتها “دول”!