حجية السنّة والرد على الشبهات المثارة حولها / ذ.الشيخ بن ابَّ
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعثه رحمة للعالمين.
وبعد فإن الضرورة الشرعية دعت إلى تدوين السنة في عهد التابعين كما دعت إلى جمع المصحف في عهد الصحابة مخافة النسيان وانقراض الحفاظ وما حافظت أمة على علومها إلا بالتدوين فلولا التدوين لما وصلت البشرية اليوم إلى ما وصلت إليه من تقدم ورقي في العلوم الدنيوية, فسبب نهضتها لم يكن إلا بتدوين مبادئ تلك العلوم والنظريات التي توصل إليها حذاق تلك الصناعات في العصور الماضية فعكفت بعدهم عليها الأجيال جيلا بعد جيل بالدراسة والتحليل إلى أن بلغوا اليوم ما نراه فإذا كان تدوين العلوم الدنيوية ضرورة إنسانية لا قيام للدنيا إلا به فكذلك تدوين السنة ضرورة شرعية لا قيام للدين إلا به لأن فيها بيانا لكتاب الله ، وإن المرء ليتملكه العجب حين يرى بعض الكتاب المفكرين في عصرنا الحاضر ينكرون على سلف الأمة من التابعين تدوين سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويتمنون أن تكون مما طواها النسيان ، ولو أن أحدهم ألف كتابا أو كتب مقالا أو قال في محفل كلمة زهت بها نفسه لتمنى أن يبقى ذلك كله محفوظا حتى يصل إلى الأجيال اللاحقة من بعده ولو ضاع عليه شيء منها لانقطع حسرة وأسفا عليه فكيف لا تدون هذه الأمة سنة نبيها التي فيها بيان كتاب الله؟ أليس من حق سلف الأمة أن يتعهدها ويعكف على مدارستها وفحص ناقلها، وتمييز صحيحها من سقيمها حتى ينقلها إلى الأجيال اللاحقة مبينين لهم مراتبها من صحة وضعف و ناسخها ومنسوخها ومجملها ومبينها ليعكف عليها اللاحقون بالدراسة والاستنباط؟ أي ميزان هذا ؟ أيرضون أن تدون كل العلوم إلا علم السنة بدعوى أنها مناقضة في بعضها لكتاب الله وأنه ورد النهي عن تدوينها، فهاتان الشبهتان هي عمدة كلامهم فأما ما يدعونه من التناقض فهو راجع لأحد أمرين إما تخصيص لعموم الكتاب وإما تقييد لمطلقه وهذا ليس تناقضا؛ لأن التناقض هو أن يكون كل واحد رافعا لمقتضى الآخر على وجه لا يمكن الجمع فيه وهذا لم يقع وإنما الواقع هو بيان كما هو الواقع في الكتاب، فكم من آية عامة في الكتاب أو مطلقة خصصت أو قيدت بآية أخرى ولا يمكن أن يعتبر هذا تناقضا ولا اختلافا، ولو أن هؤلاء المفكرين سألوا عما أشكل عليهم من ذلك أهل الذكر وردوه إلى أولي الأمر لبينوا لهم مشكله بواضحه ومتشابهه بمحكمه.
يقول أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات ما حاصله أنك لا تجد في السنة أمرا إلا وقد دل القرآن على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية وقد دل على ذالك لاستقراء التام. اهـ
لكنهم تجاسروا ونصبوا أنفسهم حكاما على السنة يأخذون منها ما يوافق هواهم ويردون ما يخالفه ومن جملة ذلك ما أورده أحد أعضاء “ديوان الشناقطة” -وهي مجموعة مشهورة على الواتساب- من أسئلة تسعة حول حجية السنة واعتبارها مصدرا تشريعيا كالقرآن ناقلا لها عن بعض المفكرين طالبا من أهل مجموعة الديوان إزالة اللبس عنه فيها وفي مسألتين زادهما على ما نقل وهما نسْخ السنة للكتاب أو إضافة حكم ليس فيه، وسياتي جوابهما إن شاء الله ضمن التسعة التي نقلها. وهذه التسعة محصورة في جهتين : جهة أصلية ترجع إلى الطعن في اعتبارها من أصلها حجة ولو فرض ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وجهة تابعة ترجع إلى نقلها وتدوينها بعد انقضاء زمان الوحي ؛ فأما الجهة الأولى فقد أورد عليها خمس شبه وأما الثانية فقد أورد عليها أربع شبه.
وقبل الإجابة على الإشكالات المتعلقة بكل جهة فلابد من تقرير كل جهة وبيان الحجة فيها بالدليل القاطع من كتاب الله فأما الجهة الأصلية المتعلقة بحجية السنة ووجوب العمل بها فقد قال تعالى ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) وسبب نزولها كما في صحيح البخاري هو قضاء النبي صلى الله عليه وسلم للزبير بالسقي قبل الأنصاري من شراج الحرة. وفي آية أخرى كذلك (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) إلى غير ذالك من الآيات الكثيرة القطعية الدلالة على حجية السنة ووجوب العمل بها، والقطعي لا يمكن أن يعارض بشيء لأن ما يفترض أن يكون معارضا له إما أن يكون قطعيا؛ وذلك غير ممكن لأن تعارض القطعيين محال، وإن كان ظنيا فالقطعي مقدم؛ قال المراقي :
ولا يجي تعارض إلا لما | من الدليلين إلى الظن انتمى |
وما أورده الأخ ناقلا له عن بعض المفكرين من أن اعتبار السنة وحيا أمر شبه مستحدث من الشافعي هو أمر غير صحيح، فإن الدال على كون السنة وحيا هو قوله تعالى ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) وقوله صلى الله عليه وسلم ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه. وأما نسبتها إلى الشافعي فإنما يكون باعتبار الاصطلاح فقد صرح بأنها منزلة كالقرآن في كتابه الرسالة التي ألفها في الأصول وهي أول ما ألفت فيه وما فيها من علم الأصول ليس محدثا إلا باعتبار الاصطلاح وأما العلم في نفسه فقد كان مركوزا في طبائع من سبقه من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين قال سيدي عبد الله في المراقي :
أول من ألفه في الكتب | محمد بن الشافعي المطلب | |
وغيره كان له سليقة | مثل الذي للعرب من خليقة |
مع أن هذا الاصطلاح كان يخصه بعض من سبق الشافعي بالسنة دون القرآن فقد قال القرافي في نفائس الأصول قال بعض السلف : اشتغلت بالقرآن سنة وبالوحي سنتين يريد بالوحي الأحاديث.
وأما الشبه الواردة على هذه الجهة فهي خمسة كما تقدم :
الشبهة الأولى :[القرآن يشير في آيات عديدة أن الرسول وظيفته تبليغ الكتاب وتبيينه للناس وتعليمه [لتبين للناس ما نزل إليهم]
الجواب عن هذا الاستدلال أن الوارد في السنة منحصر في أربعة أقسام :
الأول :أن يكون مثل ما دل عليه الكتاب.
الثاني :ما فيه بيان لمجمله أو تخصيص لعمومه أو تقييد لمطلقه.
الثالث :ما هو مسكوت عنه في الكتاب متضمن لإضافة حكم لم يدل عليه القرآن
الرابع: ما فيه معارضة واضحة .
وأما الأول والثاني فلا خلاف بين أهل العلم في وجودهما في السنة، وبهما حصل البيان المذكور في الآية. وأما الثالث وهو المتضمن إضافة حكم لم يدل عليه الكتاب فمختلف في وجوده في السنة فمنهم من نفاه، وقال كل ما صح لا بد أن تجد الكتاب دالا عليه بوجه من الوجوه، ومنهم من أثبته لكن لم يختلفوا في وجوب العمل به على كل حال فهو خلاف لفظي لأنه راجع إلى اعتباره قسما ثالثا لا إلى وجوب العمل به، قال الشافعي في رسالته مبينا ذلك : (“لم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين، والوجهان يجتمعان ويتفرعان؛ أحدهما ما أنزل الله فيه نص كتاب فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما نص الكتاب، والآخر مما أنزل الله فيه جملة كتاب فبين عن الله معنى ما أراد؛ وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما. والوجه الثالث ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس فيه نص كتاب فمنهم من قال جعل الله له بما افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب ومنهم من قال لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، ثم قال الشافعي:” وأي هذا كان فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله ولم يجعل لأحد من خلقه عذرا بخلاف أمر عرفه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم”) اهـ .
وقد رجح الشاطبي في كتاب الموافقات بعد بسطه لأدلة الطرفين الرأي القائل بأن القسم الثالث لا وجود له في السنة فإنه قال : السنة راجعة في معناها إلى الكتاب فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره فلا تجد في السنة أمرًا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية، وذلك لأنها بيان له وهو الذي دل عليه قوله تعالى [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ] إلى أن قال والاستقراء التام دال على ذلك. اهـ
فتبين من هذا أنه لو سلمت دلالة الآية على حصر السنة في البيان فإنما يقتضي أن السنة لا يوجد فيها شيء إلا وهو موافق لما في القرآن لأنها بيان له، فما دلت عليه إما أن يكون مفصّلا لمجمل القرآن أو بيانا له بتخصيص عمومه أو تقييد مطلقه لكن لا يفقه ذلك إلا الراسخون في العلم.
أما القسم الرابع: وهو المخالف الراجع إلى النسخ فإن الشافعي الذي أنكرتم عليه اعتباره للسنة وحيا وأنه يراها مثل الكتاب وجعلتموه بدعا في ذلك فإنه لم يذكره لأنه لا يرى نسخ السنة للكتاب قال في رسالته ما نصه : وأبان الله لهم أنه إنما نسخ ما نسخ بالكتاب وأن السنة لا تكون ناسخة للكتاب، وإنما هي تَبَعٌ للكتاب بمثل ما نزل به نصا ومفسرة معنى بما أنزل منه حكما قال تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي) ففي قوله (ما يكون لي أن أبدله) ما وصفته من أنه لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه). اهـ.
ولهذا قال أصحاب الشافعي إنه لم يوجد في القرآن آية نسخت بسنة لأن الشرع قد ورد بالمنع منه وهو في قوله تعالى (ما ننسخ من آية أو ننسها) فلا تكون السنة خيرا ولا مثلها وقالوا ولولا هذه الآية لأجزنا نسخ الآية بالسنة.
الشبهة الثانية [تشير الآية [وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى] إلى القرآن كما يقول الطبري لا إلى كلام الرسول ]
جوابها يحتاج إلى بيان أمر وهو أن الخلاف هل السنة وحي كلها أو يجوز أن يكون بعضها اجتهادا هو خلاف لا طائل تحته كما بين ذلك العلماء كالزركشي في البحر المحيط لأنه يجب اتباعه والتسليم لحكمه سواء كان وحيا أو اجتهادا فإذا تبين ذلك فلو سلم أن الطبري قال ذلك ثم سلم له بعد ذلك قوله فإنه مجرد زيادة عدد في الطائفة القائلة بأن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز في حقه الاجتهاد وهو أمر لا يبنى عليه شيء مع أننا لا نسلم أنه قاله، ولو سلمنا أنه قاله فلا نسلم دليله عليه، فأما الأول فإن ما نص عليه الطبري عند هذه الآية هو : قال أبو جعفر رحمه الله يقول تعالى ذكره وما ينطق محمد بهذا القرآن عن هواه {إن هو إلا وحي يوحى} يقول ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه اهـ فقول الأخ : “لا إلى كلام الرسول” لا توجد في منطوق كلامه ولا تؤخذ من مفهومه وإنما يقرر الطبري في كلامه حصر القرآن في الوحي من الله لا حصر الوحي في القرآن، وأما الثاني فإن هذه الآية دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقع منه اجتهاد وأن السنة كلها وحي من الله تعالى لأن قوله وما ينطق فعل في سياق النفي، و الفعل في سياق النفي عام وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا إني أوتيت القرآن ومثله نص في دخولها، ومن جوز الاجتهاد في حقه صلى الله عليه وسلم حمل الآية على خصوص القرآن باعتبار سبب النزول والأصح أن العبرة بعموم اللفظ لا خصوص السبب.
الشبهة الثالثة [في القرآن كما في السيرة مواقف يحيل فيها النبي صلى الله عليه وسلم الأسئلة إلى القرآن حصرا ولا يجيب عنها ]
جوابها هذه الشبهة من وجهين:
الأول: أن هذا دليل على نقيض مطلوبك من أن السنة ليست وحيا من الله وإنما هي اجتهاد منه إذ لو جاز في حقه الاجتهاد لما انتظر نزول الوحي، فإذا انتفى الاجتهاد في حقه وجب أن يكون كل حكم صادر عنه وحيا من الله وقولك يحيل إلى القرآن لم أجدها في شيء من كتب الحديث، وإنما فيها أنه كان ينتظر الوحي والوحي أعم من القرآن كما يدل له حديث الذي سأله عن العمرة فأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي ثم سري عنه فقال :اصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك وهو حديث صحيح متفق عليه، وهو دليل قطعي على أن السنة كانت تنزل كما ينزل القرآن.
الثاني: أن هذا الدليل مقابل بمثله فهناك وقائع كثيرة إن لم تكن أكثر من مقابلها كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب فيها ولا ينتظر الوحي.
الشبهة الرابعة [التوحيد بين كلام الله وكلام الرسول من حيث المرتبة اللاهوتية الوحي يؤدي إلى خلط بين اللاهوت والناسوت وينفي بشرية الرسول التي تثبتها آيات قرآنية عديدة ]
ما مقصودك بالتوحيد؟ فإن كان مقصودك بالتوحيد بين كلام الله وكلام الرسول من حيث المرتبة أننا لا نفرق بينهما في وجوب الاتباع والتسليم لحكم كل منهما والوقوف عند أمرهما ونهيهما امتثالا واجتنابا وأننا نرد عموم أحدهما إلى خصوص الآخر ومطلقه إلى مقيده ومجمله إلى مبينه فهذا توحيد أوجبه صريح القرآن قال تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاع اللَّهَ)، وقال أيضا (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) وقال أيضا (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى وإن كان مقصودك بالتوحيد بينهما في المرتبة أننا نسوي بينهما في كل وجه فليس الأمر كذلك بل نفرق بينهما من وجوه عديدة.
الأول :أن القرآن منزل لأجل الإعجاز به والتحدي وليست السنة منزلة لأجل ذلك.
الثاني :أن القرآن نتعبد الله بتلاوته في الصلاة بخلاف الحديث.
الثالث: أن من يتلو القرآن فله بكل حرف عشر حسنات.
الرابع: أن الحديث يقرأه الجنب بخلاف القرآن إلى غير ذلك من الفروق التي أشار لها في طلعة الأنوار بقوله :
الطرف الأعلى من الإعجاز | مما به القرآن ذو امتياز | |
كذاك حفظه من التبدل | ومنعه للمحدث المغتسل | |
ومنعه تلاوة للجنب | في كل حرف منه عشرا أوجب | |
والنقل بالمعنى على المنصور | ورأي الاربعة والجمهور | |
وفي صلاتنا له تعين | تخصيصه باسم القرآن بين |
الشبهة الخامسة [هذا التوحيد ينفي ما يثبته التاريخ من أن الرسول عليه السلام يرى آراء خاصة به ويجتهد وقد يتراجع عن اجتهاد ما حين تاتي آية تصوبه في أكثر من مناسبة : مواقف الأسرى (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الزوجات (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الصلاة على عبد الله بن أبي (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا) الاستغفار لأبي طالب أو للوالدين إلى أن نزلت (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) فلو كانت السنة وحيا لما تعارضت مع القرآن هذا التعارض]
الجواب عن هذه الإشكالات أن الدليل القاطع من كتاب الله قام على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أمرنا به واجتناب كل ما نهى عنه قال تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وقال تعالى (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) وقال أيضا (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) فإذا حكم النـــــــــبي صلى الله عليه وسلم بشيء ثم ورد حكم بعد ذلك من الله أو منه صلى الله عليه وسلم مخالف لما تقدم فإن اللاحق يكون بمنزلة الناسخ للسابق وإن لم يكن على خلافه فهو مستمر الحكم في ذلك وما ساقه بعض المفكرين من الظواهر إما أن يكون مستدلا بها على عدم وجوب التسليم لحكمه لأنه قابل للخطإ وهذه مصادمة صريحة لكتاب الله وإلقاء له وراء ظهره، وإما أن يكون مستدلا به على إمكان الاجتهاد منه ووقوع الخطإ، فإن كان كذلك فهو خلاف الراجح لأن المحققين يمنعون الخطأ في حقه صلى الله عليه وسلم متمسكين بالدليل القاطع على عصمته وحملوا هذه الظواهر على وجه لائق بمقام النبوءة ولا ينبو عنه ظاهر الآيات كما في قوله تعالى (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فإن بعضهم حملها على أن النبي كان مخيرا أو أن معناها بيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء بإحلال الغنيمة أي ما كان لنبي غيرك كما ذكر ذلك القاضي عياض في الشفاء ومن ذلك جوابه: “أن معنى هذه الآية (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) أن الله تعالى كان خيره بين الإذن لهم وعدمه فاختار الإذن لهم، فأعلمه الله تعالى أن المصلحة كانت تقتضي عدم الإذن حتى يتبين له أمرهم، فالحكم الشرعي كان التخيير والمصلحة مختلفة كما خير الله تعالى بين خصال الكفارة مع اختلاف مصالحها، وخيّر عليه السلام ليلة الإسراء بين اللبن والخمر مع أن الخمر يغوي واللبن يهدي، كما جاء في الحديث. وإذا كان الحكم التخيير فلا خطأ في حكم شرعي حينئذ”)) اهـ.
ومن هذا التأويل استمد القرافي جوابه عن إشكال أورده بعض الفضلاء في الفرق بين قاعدة التخيير بين شيئين وأحدهما يخشى من عقابه وبين قاعدة التخيير بين شيئين وأحدهما يخشى من عاقبته لا من عقابه؛ قال القرافي في فروقه:(( إن الأول متعذر الوقوع ولا يمكن أن يخير الله تعالى بين شيئين وأحدهما يخشى من عقابه وأما ما يخشى من عاقبته فوقوع التخيير فيه ممكن واقع وقد وقع ذلك فمنها ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فجاءه جبريل عليه السلام بقدحين أحدهما لبن والآخر خمر فخيره بين شرب أيهما شاء فاختار اللبن فقال له جبريل عليه السلام اخترت الفطرة ولو اخترت الخمر لغوت أمتك والفرق أن العقاب لما كان يرجع إلى المنع الناشئ عن الكلام النفساني كان تحريما لا يجتمع مع الإباحة بخلاف العاقبة ترجع إلى أثر قدرة الله تعالى وقدره في الحوادث لا بخطابه وكلامه)) اهـ منه باختصار.
ومثل الجواب الذي تَقدَّم للقاضي عياض وارد في قوله تعالى (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا) قال ابن العربي في أحكامه: (” وقال قوم : هو تخيير من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر [ إني خيرت فاخترت قد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت] وهذا أقوى لأن هذا نص صريح صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم في التخيير وتلك استنباطات والنص الصريح أقوى من الاستنباط”))اهـ.
وقد أوضح ذلك ابن حزم بقوله في الأحكام لو لم يرض الله تعالى صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عبد الله بن أُبَيْ لما أقره عليها ولأنزل الوحي عليه لمنعه، كما نهاه بعد صلاته عليه أن يصلي على غيره منهم فصح أن قول عمر كان اجتهادا منه أراد به الخير فأخطأ فيه وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجر عمر في ذلك أجرا واحدا لكنا نقول إنه عز و جل خــــير نــبــيـــه صلى الله عليه وسلم في ذلك على الحقيقة فكان مباحا له صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم ما لم ينه عن ذلك) اهـ
وأما مقابل قول المحققين فهو عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من التقرير على الخطإ فلم يمنعوا الإمكان لكن منعوا أن يقر عليه وعلى هذا فكل حكم أقر عليه فواجب علينا اتباعه لقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)
الجواب على الشبه الواردة على الجهة التابعة:
وأما ما أورده بعض المفكرين على الجهة التابعة المتعلقة بتدوينه ونقله فقد أورد الأخ المذكور فيه أربعة أسئلة، وقبل الإجابة عليها فلا بد من إقامة الدليل على صحة هذه الجهة وتوضيح ما بنيت عليه من الأسس العلمية المتينة التي اعتمدها سلف الأمة في تدوينها ونقلها إلينا وهو أن الحديث علم كسائر العلوم والعلم لا يقيد إلا بالكتابة وقد دل على ذلك الكتاب والسنة فأما الكتاب فقد قال الله تعالى (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وقال أيضا (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ) كما بين ذلك القرطبي في تفسيره وأما السنة فقد أمر صلى الله عليه وسلم بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه رجل من اليمن لما سأله كتبها :أخرجه مسلم ومن ذلك حديث عبد اللــــه بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسـمــعـــــه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأريد حفظه فنهتني قريش و قالوا تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الرضا و الغضب قال فأمسكت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق و أشار بيده إلى فيه] أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم.
الشبهة الأولى [لم يأمر الرسول بتدوين السنة ولو كانت وحيا لأمر الصحابة بكتابتها كما فعل مع القرآن]
لا نسلم انتفاء أمره صلى الله عليه وسلم بل أمر بكتابة الحديث كما تقدم من حديث أبي شاه وحديث عبد الله بن عمرو وإنما ورد النهي أولا مخافة التباسه بالقرآن فلما أمن اللبس ورد الإذن بكتابته وهذا هو أقرب الوجوه بل وانعقد الإجماع على جواز كتابته قال العراقي:
واختلف الصحاب والأتباع | في كتبة الحديث والإجماع | |
على الجواز بعدهم بالجزم | لقوله اكتبوا وكتب السهم |
الشبهة الثانية [الخلفاء الراشدون جميعا لم يدونوا ولم يأمروا بتدوينها حتى جاء الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز في القرن الثاني الهجري ولو كانت بمنزلة الوحي كما يقول الشافعي لاحقا لما تهاون هؤلاء الخلفاء بأمرها لدرجة عدم وضع برنامج خاص بتدوينها]
الجواب عن هذا الإيراد من ثلاثة أوجه :
الأول :أن السبب المقتضي لتدوين الحديث لم يكن قائما في عهد الخلفاء الأربعة وهو الخوف من اندراسه لأن الصحابة الذين عاينوا التنزيل وسمعوا مشافهة من النبي صلى الله عليه وسلم وحملوا حديثه إلى الأمة متوافرون في عهد الخلفاء مع سعة في الحفظ وقوة في الذاكرة ولو حدث السبب المقتضي في عهدهم لدونوا الحديث وجمعوه كما دونوا القرآن وجمعوه وإنما حدث السبب المقتضي في عهد عمر بن عبد العزيز وقد بين ذلك في رسالته إلى أبي بكر بن حزم ونصها : انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا يقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم وليفشوا العلم وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا.
الثاني ـ صعوبة التدوين للحديث في عهدهم فأكثرهم لا يعرف الكتابة كما ذكر ذلك ابن حجر وقد بين ابن خلدون في مقدمته هذين الوجهين حيث قال الأمة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتآليف والتدوين ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه الحاجة.
الثالث: قوله الخلفاء جميعا لم يأمروا ..إلخ: منتقض بما صح عن عمر رضي الله عنه من أمره بالكتابة قال الحاكم في المستدرك قد صحت الرواية عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال قيدوا العلم بالكتاب قال الذهبي وصح مثله من قول أنس قال الإمام البغوي في شرح السنة وقد ذكر هذا الحديث عن عمر ما نصه ومن اعتمد على حفظه لا يؤمن عليه الغلط فترك التقييد يؤدي إلى سقوط أكثر الحديث وتعذر التبليغ وحرمان آخر الأمة عن معظم العلم.
الشبهة الثالثة [الإمام مالك رحمه الله له مواقف يقدم فيها عمل المدينة على الحديث]
الجواب عن هذا أن الإمام مــــــالك رحمه الله هو من هو في اتباع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره في ذلك معلوم مشهور لا يخفى على أحد وهو رأس المدونين في الحديث ونجمهم وتقديمه عمل أهل المدينة على الحديث ليس دليلا على طعنه في السنة بل هو تقديم لأقوى السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عمل أهل المدنية في عهده تلقته الكافة عن الكافة فلم يكن ليستمر العمل في عهد التابعين إلا لكونه مستمرا في عهد الصحابة ولم يكن ليستمر في عهد الصحابة إلا لكونه مستمرا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهو ما أخذ بعمل أهل المدينة إلا لكونه دليلا قطعيا أو ظنيا على عمل النبي صلى الله عليه وسلم
الشبهة الرابعة [السنة تعرضت للإضافات والزيادات والوضع والتدليس والتعليق والإرسال والنقل بالمعنى بخلاف القران الذي هو قطعي الثبوت]
الجواب عن هذا أن الحجة إنما تقوم بما صح سنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما تعرضت له السنة من الإضافات والزيادات وسائر ما ذكرتم فقد ميزه الجهابذة النقاد من المحدثين حديثا حديثا فميزوا الصحيح والحسن والضعيف والموضوع والمعلق والمرسل قال ولي الدين العراقي :
فقيض الله لها نقادها | فبينوا بنقدهم فسادها |
وقد ألفت مئات الكتب في ذلك كما هو معلوم لكل أحد.
ذ.الشيخ بن ابَّ؛ أستاذ بجامعة شنقيط العصرية
والمدرس في محظرة النباغية