الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

الشعر من الجوائز إلى السجون / أ. السيد أحمدو الطلبة

لئن كانت للشعراء منازلُ عزيزة عليهم، يسعَدون بها في القرب ويحنّون إليها في البعد … فإن لهم منازلَ أخرى لا يسعدون بها ولا يحِنّون إليها، نزلها كثير منهم كارهين فزِعين، لا مشتاقين ولا نازعين ..

 

دخل السجونَ عبر التاريخ جَمٌّ غفير من الشعراء ..

ففي أول القرن الثاني الهجري سجَن هشام بن عبد الملك الفرزدق في القصة المشهورة:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته …الخ

وفي القرن الثاني غيرَبعيد، سجَن عامل المنصور على مكة الشاعرَ جعفر بن علية الحارثي في جناية قتل، وله في سجنه قصيدة من أرق الشعر على الإطلاق، منها:

 

هواي مع الركب اليمانين مصعد

جنيب، وجثماني بمكة موثَق .

 

عجبتُ لمسراها وأنى تخلّصَت

إليّ، وباب السجن دونيَ مغلق .

 

ألمّتْ فحَيّت ثم ولّت فودّعَت

فلما تولت كادت النفس تزهَق .

 

فلا تحسبي أني تخشّعت بعدكم

لشيء، ولا أني من الموت أفرَق .

 

ولا أن قلبي يزدهيه وعيدهم

ولا أنني بالمشي في القيد أخرَق .

 

ولكن عرتني من هواكِ ضَمانة

كما كنتُ ألقى منكِ إذ أنا مطلَق .

 

وقبل هذا وذاك، في القرن الأول سُجِن هدبة بن الخشرم في جناية مشابهة، فأودع السجن عدة سنوات ثم قُدّم للقتل قصاصا، وفي مشهد تنفيذ الحكم المهول ابتسم والي المدينة سعيد بن العاص -لسبب ما- وكان مشتهرا بحسن الثغر، فخطرت بالشاعر في أحرج الأوقات محبوبته والمحاسن يذَكّر بعضها ببعض، وختَم شعره وعمره بتخليد تلك الخطرة:

 

ولما دخلتُ السجن يا أم مالك

ذكرتكِ، والأطراف في حِلَق سُمْر .

 

وعند سعيد غيرَ أن لم أبح به

ذكرتكِ، إن الأمر يعرض للأمر .

 

والاستقراء يُظهِر أن كثيرا من شعراء السجون تطبع شعرَهم رقّةٌ عجيبة، وكأن تلك الظروف القاسية تصقل مواهبهم كما تصقل النار الحسام، وكما يصَفّي اللهب النُّضار، فمن ذلك قول أعرابي في سجن اليمامة لم يذكر الرواة اسمه، وهو يستعطف سجّانه لعله يسمح له بنظرة من بعد إلى نجد ومعالمه:

 

أيا واليَيْ سجن اليمامة أشرِفا

بيَ القصر أنظرْ نظرة، هل أرى نجدا

فقال اليماميّان لما تبَيّنا

سوابق دمع ما ملكت لها ردا

 

أمِن أجل أعرابية ذات بردة

تبكّي على نجد وتبلى كذا وجدا

 

لعمري لأعرابية في عباءة

تحل دماثا من سويقةَ أو فردا

 

أحب إلى القلب الذي لجّ في الهوى

من اللابسات الريط يظهرنه كيدا

 

ويبدو أن سَجّانَي اليمامة كانا ظريفين ولم يعدَما رفقا ورأفة حيث تناولا مع سجينهما أطراف الأحاديث ونال منهما بعضَ المباسطة، بخلاف الشاعر المسكين الذي حاول شيم البرق فردّه السجّان القاسي:

 

وبدا له من بعدما اندمل الهوى

برق تألّق موهنا لمعانه .

 

يبدو كحاشية الرداء، ودونه

صعب الذرى متمنِّع أركانه .

 

فبدا لينظر كيف لاح، فلم يطق

نظرا إليه، وردَّه سجّانه .

 

فالنارُ ما اشتملتْ عليه ضلوعه

والماءُ ما سَحّتْ به أجفانه .

 

ومن رقيق شعر السجون:

 

أسجنا وقيدا واشتياقا وغربة

ونأي حبيب، إن ذا لعظيم

 

وإن امرأ تبقى مواثيق عهده

على مثل ما بي إنه لكريم .

 

ومن أعيان الشعراء الذين دخلوا السجون أبو العتاهية الذي سجَنه الخليفة المهدي بن المنصور في سجن الجرائم بسبب قراره المفاجئ باعتزال الشعر، وقُدّم للخليفة مع رفيق محكوم عليه بالقتل، فسأله المهدي بعدما قطع رأس صاحبه عن قرار ترك الشعر ؟ فتاب من ذلك القرار وعُفي عنه، إلا أنه خلال فترة السجن لم يقل بيتا واحدا لاستحواذ الفزع والرعب على قلبه، وقصة ذلك مبسوطة في مراجع الأدب ..

ومنهم كذلك أبو نواس الذي سجنه الأمين بن الرشيد إثر موجدة وجدها عليه وتوعده بالقتل، فاستعطفه من السجن بأبيات ظريفة، فعفا عنه:

 

بكَ أستجير من الردى …. متعوّذا مِن سطو باسِكْ

 

وحياةِ راسك لا أعو …. د لمثلها، وحياة راسِكْ

 

من ذا يكون أبا نوا …. سِك إن قتلتَ أبا نواسِكْ .

 

ومنهم الحكم بن عبدل الأسدي وهو شاعر مجيد كان في دولة الأمويين، كان مُقعدا وحُبس مع صديق له أعمى يُدعى بيحيى أبي عُلَيّة، وخلّد ذلك بأشعار ظريفة منها قوله:

 

حبسي وحبس أبي عُلَيْ …. يَةَ من أعاجيب الزمان .

أعمى يقاد ومُقعَد …. لا الرجل منه ولا اليدان ….الخ

 

ومنه قوله:

 

أقول ليحيى ليلة السجن سادرا

ونومي به نوم الأسير المقيد .

 

أعني على رعي النجوم ولحظها

أُعنك على تحبير شعر مقَصَّد .

 

ففي حالتينا عِبرة وتفكر

وأعجب منه حبس أعمى ومُقعَد …الخ

 

وأمير شعراء السجون -إن استقام التعبير- أبو فراس الحمداني، ومن رقيق شعره في سجن الروم:

 

أقول -وقد ناحت بقربي حمامة-

أيا جارتا هل بات حالك حالي؟

 

معاذ الهوى ما ذقتِ طارقة النوى

ولا خطرت منكِ الهموم ببال .

 

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا

تعالَي أقاسمكِ الهموم تعالِي .

 

أيضحك ماسور، وتبكي طليقة

ويسكت محزون، ويندب سال؟

 

وحديث الشعراء مع السجون طويل لا تسعه جولة صباحية في ذي المجاز، ولا شك أن لشعراء النضال السياسي منه حظا ليس بالقليل، غير أننا نكتفي بهذه العجالة ..

 

وبما أن مجالس السجون من أحوج المجالس إلى تَنَزُّل الرحمات نختم بذكر أحد الشعراء الصالحين الذين نزلوا ذلك المنزل، وأقصد بذلك محمد أحمد يوره الذي سَجنه المستعمر بتهمة غير مشبِهة، وهي أبيات رديئة المبنى والمعنى يشمَت قائلها بجندي فرنسي قتل ودفن ثم نبش وحمل على ثور في موكب ليُدفن مع إخوانه من قتلى جند المستعمر، نُسِبت تلك الأبيات زورا وبهتانا لمحمد الذي يقول قولا غير مكذوب عليه:

 

أيا نوبتي عند الهويدج، والتي

على الريع من دامان بالصيف ولّتِ ….الخ، ويقول:

 

على النهر من ثوبان نفسيَ حنّت

وحنت لأيام كأيام حنت …الخ

 

فسُجن بذلك السبب، وله أبيات ظريفة يشكر فيها من زاره في السجن من قبائل المنطقة، مع عتاب لطيف لمن لم يزره منهم:

 

الفاضليون أتوا شيعة …. فاخرة، في حُلّة فاخرة .

 

يا حبذا الباقون، لكنهم …. لم تاتهم في شأننا الآخره .

 

وفي الختام أسأل الله أن يجعلنا من شعراء الجوائز ويجيرنا من السجون وظلماتها وعويلها وويلاتها، وأن يجعلنا ممن هذّبت موهبتَه العافية والأناسيم الباردة والثغور الباسمة، وأن يجنبنا مكاره الدارين، إنه ولي ذلك والقادر عليه ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق