من أدبيات الضيف / ذ. السيد أحمدو الطلبة
للضيف والمُضيف حظهما من الأدب العربي، فكرمُ الضيافة من شيم العرب ومفاخرهم القديمة، وقد كان أجوادهم يوقدون نارا تهدي الضيف لخِيَمهم التي يرخي عليها الليل البهيم رواقه في مجاهل الصحراء، وتلك النار معروفة بنار القِرى وقد اشتهر فيها قول حاتم الطائي يخاطب غلامه:
أوقد فإن الليل ليل قَرُّ …. والريح فيها برَدٌ وصِرُّ …. إن جلبتْ ضيفا فأنت حرُّ .
وقد كانوا يذمون النزول في التلاع ويعتبرونه هربا من الضيوف، ولذلك فَخَر طرفة بكونه لا ينزل التلاع:
ولست بمحلال التلاع لبيتة …. ولكن متى يسترفد القوم أرفد .
وكان مما تتمدَّح به العرب كثرة غشيان الضيوف لبيوتهم وإلف كلابهم للطراق، ومنه قول حسان رضي الله عنه في بني قيلة:
بيض الوجوه، كريمة أحسابهم ..
شم الأنوف، من الطراز الأول .
يُغشَوْن حتى ما تَهِرُّ كلابُهم
لا يَسألون عن السواد المقبل …
ومبلغ الغاية من إكرام الضيف ورحابة الصدر له ما ذكر أحد الشعراء عن ممدوحه:
وإذا تأمل شخص ضيف مقبل
متسربل سربالَ ليل أغبرِ
أوما إلى الكوماء: هذا طارق
نحرتنيَ الأعداء إن لم تُنحَري ..
وفي مقابل منقبة طرفة التي افتخر بها نجد شاعرا آخر يعلن في شعره إصراره على استقبال الضيوف بأسوء المعاملة:
أعددت للضِّيفان كلبا ضاريا
عندي، وفضلَ هراوة من أرزنِ .
ومعاذرا كذبا، ووجها باسرا
وتشكيا عضَّ الزمان الألزنِ .
وما فتئ الشعراء يخلدون مواقف مشهودة تُوقعهم فيها يدُ السفار وعناءُ الرحلة وطولُ الطريق …
ذات ليلة شاتية حالكة الظلام حطَّ الشاعر القطامي رحله أمام خباء إحدى عجائز محارب لائذا بها من وطأة الجوع وسَورة البرد، ولم تفرح العجوز بذلك الطارق المجهول فتركت بتصرفها السيء سُبَّةً باقية إلى الأبد لها ولقومها محارب:
تضَيَّفتُ في برد وريح تلفني
وفي طِرْمِساء غيرِ ذات كواكبِ .
إلى حيزبون توقد النار بعدما
تلفعت الظلماء من كل جانب .
فما راعها إلا بغام مطيتي
تريح بمحسور من الصدر لاغب .
فسلمتُ والتسليم ليس يسرها
ولكنه حتم على كل جانب .
فردت سلاما كارها، ثم أعرضت
كما انحازت الأفعى مخافة ضارب .
فلما تنازعنا الحديث سألتها
من الحيُّ ؟ قالت: معشرٌ من محارب .
من المشتوين القدَّ في كل شتوة
وإن كان عام الناس ليس بناصب .
فلما بدا حرمانها الضيفَ لم يكن
عليَّ مبيت السوء ضربةَ لازب .
وقمت إلى مهريَّة قد تعوَّدت
يداها ورجلاها حثيث المواكب .
ألا إنما نيران قيس إذا شَتَوا
لطارق ليل مثل نار الحباحب .
ومن الطريف في باب التقصير في الضيافة ذلك الجدال الذي تقارع فيه الضيف ومُضيفه بالحجج من الحديث الشريف:
وأخٍ مسه نزولي بقرْح … مثلما مسني من الجوع قرْحُ .
بتُّ ضيفا له كما حكم ال … دهر، وفي حكمه على الحر قبح .
فابتداني يقول: -وهو من السك … رة بالهم طافح ليس يصحو– .
لِمْ تغَرَّبتَ ؟ قلت: قال رسول … الله، والقول منه نصح ونجح .
سافروا تغنموا، فقال: وقد قا … ل تمامَ الحديث: صوموا تصحوا .
و من محاسن ما ترتب على إكرام الضيف قصيدة الحطيئة التي مدح بها الزبرقان وبيته وعشيره حين أكرموا نُزله وأحسنوا معاملته:
ألئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شَدُّوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا …
وقريب من ذلك ضيف بني شيبان الذي كافأ مِنَّتهم بتخليدهم بالذكر الجميل:
إني حمدت بني شيبان إذ خمدت
نيران قومي وفيهم شبت النار .
ومن تكرمهم في القحط أنهم
لا يعلم الجار فيهم أنه جار .
حتى يكون عزيزا من نفوسهم
أو أن يبين جميعا، وهومختار …
ومما سجل شعراء الشناقطة في باب الضيافة أبيات ظريفة للشاعر محمدو ولد محمدي:
إن يمنع الله رزق العبد ينزله
ضيفا على نجل جيرفين ذي البقر .
أهدى إليه بنا عوز الكرام وما
لاقت نجائبنا من شدة السفر .
لم ياتنا بفراش لا ولا بقِرًى
ولم يسلم ولم يسأل عن الخبر .
فبات ملآن بطن حولنا، ولنا
مبيت موسى كليم الله والخضِر .
ومنه أبيات ابن السالم الحسني عندما نزل ضيفا على امرأة قصَّرت في ضيافته حيث لم تعرفه، إلى أن حضر من يعرفه فلامها وعرَّفها بضيفها فاعتذرت له، فقال يخاطبها:
نزيلك فامني أبدا أذاه … نزيل غير مرهوب المصال .
ضعيف لا يُخاف البطش منه … عفيف لا يسب على النوال .
قراه إذا ألم بأرض قوم … مفاكهة اللبيب من الرجال .
هذا ورُبَّ بيت يقول أهله لضيفهم:
لو علمنا قدومكم لفرشنا … مُهَج القلب أو سواد العيون .
ولجعلنا بين الجفون طريقا … ليكون المرور بين الجفون .
حين يقول الموَدِّع:
إذا غاب عبد الله عن مروَ ليلة … فقد غاب عنها نورها وجمالها ..