من أدبيات الخمر / ذ. السيد أحمدو الطلبة
وللكأس والصهباء حق معظم
ومن حقها أن لا تضاع حقوقها
قد يكون من اهتضام حقوق الصهباء أن تعطى صباحا “مجازيا” للتجول في عالمها الفسيح الذي تضيق الأكوان به وهي رحاب !!
وقد لا يستحق هذا المجلس عند أبي نواس أن تخلع عليه صفات المجالس الخمرية، كيف وهو الذي يرى أن من لم يتعتعه السكر وتأخذ بنت الكرم من عقله كل مأخذ فقد عاش عمرا مضيعا وحياة مهدرة الأنفاس:
ألا فاسقني خمرا، وقل لي: هي الخمر … ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر .
وصرح بمن تهوى ودعني من الكنى …. فلا خير في اللذات من دونها ستر .
فما الغبن إلا أن تراني صاحيا … وما الغنم إلا أن يتعتعني السكر !
في أحاديث الخمر لن يغيب عنك الحسن ابن هانئ الذي يهب من الكرى مع الصارخ ليبدأ في سدف الأسحار رحلة الإعداد لصبوح خمري رائق:
ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا
وأمله ديك الصباح صياحا .
بادر صباحك بالصبوح، ولا تكن
كمسوفين غدوا عليك شحاحا .
إن الصبوح جلاء كل مخمر
بدرت يداه بكأسه الإصباحا .
لقد عاش أبو نواس سقيما بالخمر ليس له غير دائه من دواء:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء .
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
لو مسها حجر مسته سراء …
بلغ من وفاء أبي نواس للمدامة والكاس أنه وقف في سفرة من أسفاره على دار عطلها سكانها (المجهولون) وارتحلوا، فحدثته الآثار عن شاربين أعطوا الخمر حقها ومستحقها، فلم يسعه أن يطوي ذلك المشهد المقدس، فأقام على عرصتهم ثمانية أيام فجدد العهود وترسم المنازل:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا
بها أثر منهم جديد ودارس .
مساحب من جر الزقاق على الثرى
وأضغاث ريحان، جني ويابس .
حبست بها صحبي، فجددت عهدهم
وإني على أمثال تلك لحابس!
ولم أدر من هم، غير ما شهدت به
بشرقي ساباط الديار البسابس .
أقمنا بها يوما ويوما وثالثا
ويوما له يوم الترحل خامس .
تدار علينا الراح في عسجدية
حبتها بألوان التصاوير فارس .
قرارتها كسرى، وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس .
فللخمر ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس .
ومن غرر خمريات أبي نواس تلك التي حدث فيها عن ليلته مع فتية غرر من ندمائه عاملهم الزمان باللين ودار لهم بأفلاك السعود…. يقول فيها:
إذا بكافرة شمطاء قد برزت / في زي مختشع لله زميت .
قالت: من القوم قلنا: من عرفتهم / من كل سمح بفرط الجود منعوت .
حلوا بدارك مجتازين، فاغتنمي / بذل الكرام وقولي كيفما شيت .
فاحيي بريحهم في ظل مكرمة / حتى إذا ارتحلوا عن داركم موتي .
إلى قوله:
قلنا لها: كم لها في الدن قد حجبت / قالت: قد اتخذت من عهد طالوت ….
وللأخطل في هذا المجال باعه الفسيح، فهو الذي عربد بين أيدي الخلفاء وشطح مخترقا بذلك حصون هيبتهم الحصينة:
إذا ما نديمي علني ثم علني
ثلاث زجاجات لهن هدير .
عقار كعين الديك صاف، كأنه
لعاب جراد بالفلاة يطير .
خرجت أجر الذيل تيها، كأنني
عليك أمير المومنين أمير .
وقد أجاد حين وصف نشوة السكر وما يترتب عليها:
وكأس مثل عين الديك صرف / تنسي الشاربين لها العقولا .
إذا شرب الفتى منها ثلاثا / بغير الماء حاول أن يطولا .
مشى قرشية لا عيب فيها / وأرخى من مآزره الفضولا .
ولقد انبنت على بعض الخمريات الشعرية أمور كبرى .. فقد تم عزل أحد ولاة عمر الفاروق رضي الله عنه على إثر أبيات يقول فيها:
إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني
ولا تسقني بالأصغر المتثلم .
لعل أمير المومنين يسوؤه
تنادمنا بالجوسق المتهدم .
ومن الخمريات المشهودة احتفال أحمد شوقي بعيد الفطر الذي وصل حباله بالكاس والإبريق بعد مقاطعة شهر :
رمضان ولى، هاتها يا ساق
مشتاقة تسعى إلى مشتاق!
ما كان أطوله على ألافها
وأقله في طاعة الخلاق .
لا تسقني إلا دهاقا، إنني
أسقى بكأس في الهموم دهاق …
وشوقي في هذا الاحتفال على “سنة مسنة” لإمام الفن أبي نواس:
ولى الصيام وجاء الفطر بالفرح / وأبدت الكاس ألوانا من الملح .
وزارك اللهو في إبان دولته / مجدد اللهو بين العود والقدح .
فليس يسمع إلا صوت غانية / مجهودة جددت صوتا لمقترح .
والخمر قد برزت في ثوب زينتها / فالناس ما بين مخمور ومصطبح .
بيد أن أحمد شوقي يبدو في أبياته صادقا في ارتباطه الفطري بشعائر دينه، صادقا أيضا في شغفه بالخمر والكاس، أما أبو نواس فيبدو متصنعا في ارتباطه المدعى بالشعائر الدينية ..
ولعل الندماء يثرون أحاديث الصباح الخمري ..
وإذا جلست إلى المدام وشربها / فاجعل حديثك كله في الكاس …