اسماء في ذاكرة التاريخ: العلوي ولد محمد امبارك / أحمد سالم ولد أحمد
شكل الحيّز الجغرافي الممتد من منطقة اركيز جنوبا وحتى التخوم الشمالية للعكل، خلال القرون الماضية فضاء تميز بكونه أنجب عشرات الرجال الذين تَرَكُوا بصماتهم واضعة في التاريخ المشرق لتلك المنطقة من خلال نبوغهم وتميزهم في مختلف مجالات الحياة ،ورعا وعلما ظاهرا وولاية وادبا وشعرا وقيادة مجتمعات ،وسأحاول في هذه السطور ان اتقاسم مع متتبعي هذه الصفحة بعض المعلومات والذكريات التي عشتها مع احدى هذه الشخصيات ذات الشأن الكبير ،انه الرجل بكل دلالات ومعاني الكلمة المتميز في اقواله وافعاله ،الذي جمع بين المعارف الأصلية المتداولة في مجتمعه ،والثقافة العصرية العالية ،فكان من من يشار اليهم بالبنان في الورع والكرم والانفاق ،بل في كل القربات ومقومات الفتوة ،القائد التاريخي الفذ ذي المناقب الوفيرة والخصال الحميدة ،محمد عبد الله ولد المختار ولد محمد امبارك المعروف شهرة بالعلوي .
لقد كان العلوي وهو سليل بيت القيادة في مجتمعه من اوئل أبناء جيله الذين التحقوا بالمدرسة النظامية ،حيث تابع تعليمه في مدرسة أبناء الأعيان في بتلميت التي كانت يومها أشبه ما تكون بمدرسة اعداد القادة ،وما ان تخرج منها حتى لاحظ الحكام الإداريون المنتدبون من الحكومة الفرنسية مواصفاته القيادية وقدراته الفكرية فتلقفوه ليتولى مهمة مترجم الحكام الإداريين في عديد المناطق الاستراتيجية في البلاد ،ثم ما لبث والده المختار رحمه لله وقد ادرك ان ولده بلغ أشده وأنس منه الرشد ،ان بادر بالتنازل له عن قيادة المجتمع ،وبمباركة ودعم لا محدودين من شيخنا محمد الامين ولد بدّي ،وهو صاحب القول الفصل في امور المجتمع دقيقها وحليلها ،لتفرعه السلطات لممارسة هذه المهمة النبيلة حيث أداها بكل جدارة وابلى فيها بلاء حسنا في ظروف بالغة التعقيد ،وقد كان من حسن طالعي ان حظيت خلال السنوات الاخيرة من حياة الرمز الكبير محمد عبد الله ولد محمد امبارك،ان أتعرف على الرجل عن قرب ،ففي نهاية ثمانينيات القرن الماضي عينت مستشارا لوزير التنمية الريفية .
كان العلوي رحمه الله كثير التردد على المجمع الوزاي الواقع فيما كان يعرف يومها ببلوكات ،خدمة لمصالح المجتمع بوجه عام وقريتنا الحبيبة النباغية بوجه خاص ،وكان موقع مكتبي استراتيجيا بالنسبة لجل الخدمات التي يبحث عنها الرجل رحمه الله ،فهو يقع في قلب وزارة الزراعة ،وتطل نافذته على وزارة الصحة ،ويبعد اقل من مائة متر عن وزارة التربية الوطنية ،هذا الموقع ،جعل العلوي يزورني باستمرار ويمارس علي قيادة اجتماعية حميمة ،ووصاية سيادية أبوية ملؤها العطف والحنان ،فربما طلب مني ترتيب موعد مع هذاالمسؤًول اوذاك،اواتصل به هو هاتفيا من المكتب ،وكان الثابت هو وسيلة الاتصال الوحيدة المتاحة آنذاك ،وتارة يصطحبني في مشوار الى وزارة المياه التي كانت خارج المجمع ،وأتذكر انه مرة طلب مني سيارة ينجز بها مهمة مجتمعية من النباغية الى اركيز .
كانت زيارات العلوي أعيادا بالنسبة لي .لما اتعلَّم خلالها من دروس التجارب الإدارية ،والتعاملات لاجتماعية ،والتاريخ السياسي للبلد بوجه عام ،ولمجتمعنا بوجه خاص ،فقد كان الرجل بحق مكتبة ومدرسة متنقلتين ،وإنني اذ أنسى فلن أنسى حديثه الشيق عن علاقته بالمرحوم المختار ولد داداه ،وكل ما حدثني به بشأن هذه العلاقة وجدته مكتوبا سنوات بعد ذلك ،حرفا بحرف ،في مذكرات الرئيس المختار لما نشرت،وَمِمَّا حدثني به في هذا الشأن أنهما كانا يدرسان في نفس الفصل في مدرسةأبناء الأعيان في بتلميت وانه كان من بين مدرسيهم سيد احمد ولد إياي ومحمد ولد الشيخ الحسن ،وهو ما لم أكن اعتقده لتقارب سن الجميع ،فقال لي ان سينينهم جميعا متقاربة ،وان سيد احمد كان معلمهم في القسم وصديقهم خارجه ،اما محمد ،فقد كان اكثر تحفظا ومنزويابطبيعته ،في احد الايام وأثناء درس من مادة تركيب الجمل ،طلب المعلم من كل تلميذ ان يركب جملة ،فأتى العلوي بالجملة لتالية ،”Les vaches de Noubaghuya donnent beaucoup de lait ,فاهتز القسم ضحكا وأصبحت هذه الجملة مثلا بعد ذلك ،ولما اصبح المختار رئيسا ،كان كلما دخل عليه العلوي مكتبه يبدأ له السلام بسؤاله ممازحا Est ce que les vaches de Noubaghuya donnent toujours beaucoup de lait ?ومما قال لي رحمه الله من خصوصية هذه العلاقة ان ولد داداه ما كان قاطعا أمرا يتعلق بمجتمع العلويين ،الا بعد ان يستطلع رايه وياخذ به ،حتى لو عارض هذا الرأي وجهة النظر المقترحة من طرف الادارة الترابية ،التى كانت في البداية حاكم المذرذرة وكان فرنسيا في مرحلة من المراحل ،ثم بعد ذلك حاكم الركيز ،وفي واحد من الملفات الصعبة المتعلفة بالمجتمع ،كان لاحمد ولد محمد صالح ،وزير الداخلية ،وشيخنا ولد محمد لغظف ،وزير العدل ،ومعروف ولد الشيخ عبد الله ،وزير التجارة ،وحاكم المذرذرة وكان لا يزال فرنسيا ان ذاك ،وجهة نظر موحدة ،وكانت للعلوي وجهة نطر مغايرة تماما ،وحسم المختار الموقف لصالح مقترح العلوي ،ومنشأ الثقة بيننا ،يقول العلوي ،طبعا بالاضافة الى الزمالة في الدراسة ،هو انني خلفته في اغلب مساره المهنى ،فغالبا كان عندما يحول انا من يأتي بعده كمترجم ،حدث ذلك في بئر امكرين ،وفي اطار وفي اندر ،وهنا أشير الى ان المختار لما قرر الفرنسيون تهيأته للرئاسة عينوه مترجما للحاكم العام لموريتانيا في اندر ، بمثابة وزير لكونه المساعد الاول للحاكم العام ،ولما قرروا إرساله لمتابعة دراسته عينوا العلوي محله ،وقليلا من يعرف اليوم ان العلوي قد تقلد ايام الفرنسيين هذه الوظيفة السامية ،وبخصوص تتابع المسار المهني للرجلين حدثني العلوي رحمه الله بحكاية طريفة ،قال لي انه في احدى المرات ،هم بلقاء المختار يريد ان يكلمه في موضوع مستعجل ،وكان مدير ديوانه ان ذاك محمد واد اخليل ،ولما طلب منه موعدا مع الرئيس لم بتجاوب بحجة زحمة البرنامج واجرى العلوي اتصالات تجاوز فبها مدير الديوان وحدد له الرئيس موعدا ،فلما لقيه اشتكى له الصعوبات التي لقيها في الحصول على الموعد ،فضغط المختار على جرس مكتب مدير الديوان ،فدخل محمد ولد اخليل ،فأمره بالجلوس ،فلما جلس خاطبه بقوله :محمد ،العلوي هذا حل محلي في بئر ام اكرين وحل محلي في اطار وحل محلي في اندر ،ومن يدري قد يكون هو من سيحل محلي هنا ،معنى ذلك انه اذا طلب مقابلتي ،أرجوكم سهلوها له ،وقال لي انه اثناء مقابلاته العديدةللرئيس معاوية ،كان يقو ل له انا لا أنساك ايام كنت مرافقا للرئيس المختار ،كنت كلما جئته يفرح لك وتضحكه كثيرا .قادني الفضول مرة الى ان اساله كيف استطاع تسيير ملفات المجتمع الشائكة التي طرحت ايام قيادته، وانا على علم ببعض هذه الملفات ،فنظر الي وقال Mon fils,je ne sais pas si tu es documenté,فاجبته ،Je le suis en partie ،mais je suis à la recherche d’amples informations,فتابع يقول ،في الحقيقة ،انا لدي مقولة عرفت عني وأحاول دائما العمل بمقتضاها ،وهي ان المرجعيات الروحية لمجتمعنا هم قادته الفعليّون ،ولذا كنت احضر كل قرار ذي بال يهم المجتمع بالتنسيق والتشاور مع هذه المرجعيات ،وأتولى انا التنفيذ ،لكن ذلك لا يمنعني ان استبد برأيي في بعض الأحيان ، اذا تيقنت ان رأيهم ينافي مصلحة المجتمع على المدى البعيد،في هذه الحالة اجزم وأنفذ ما أتيقن ان فيه مصلحة المجتمع،ثم أبادر مباشرة بعد ذلك الى تنظيف اثار تصرفي ،ولا اقبل ان يكون هنالك بعض الفتور في العلاقة مع اي منهم ،ومن اصعب وأحرج المواقف التي واجهتها من هذا النوع .هو انه حول احد الملفات لم تكن لدي نفس الرؤية مع السيدين الشيخان ومحمد المشرى،طبعا تبنت الحكومة رايي في الموضوع وعملت به ،ولم يتقبل السيدان هذا الموقف من طرفي،لكن في نفس اليوم توجهت الى الشيخان وكان ينزل في منزل في لكصر،ومن الباب الأمامي لحظيرة المنزل وانا لا اجد موطأ لقدمي من كثرة الرجال والنساء المزدحمين على بابه،فلما وصلت الى حيث يجلس ،نظر الي ،وكان ينتظر كل شيء غير ان اتجرأ على زيارته في ذلك اليوم ،وقال “يبوبي العلوي متبرينك اشتمميت الين جيتن”فرددت عليه قائلا “سيدي الشيخان ،اعوذ بالله ان أكون بيني وبينكم اي موقف يجعلني لا أستطيع زيارتكم في اي وقت واي مكان “فنظر الي ورد بصدقه وصفائه المعهودين “يخي ،ذلي كلت املي حك “وفي نفس الجلسة تمت تنقية الأجواء مع الشيخان حتى وكأن شيأ لم يقع ،لكن ،يضيف العلوي ،بقيت العقبة الكبرى ،وهي ترضي محمد المشري،فالتعامل مع الرجل وارضاؤه يحتاجان الى مستوى عال من القدرة على جبر الخواطر،على كل حال توكلت على الله وتوجهت نفس اليوم الى النباغية وأخذت جملا مميزا وجهزته التجهيز المناسب وتوجهت الى معط مولانا ،والبرنامج واضح بالنسبة لي ،وهو اني لن ابرحها حتى أظفر بمطلبى وهو ان أنال رضى محمد المشري وأعيد علاقتي معه الى سابق عهدها او أفضل ،ولو تطلب مني ذلك تمديد اقامتي شهورا عديدة عنده ،فلما وصلت استقبلني مضيفي بغير الحفاوة التي تعودت منه ،بل كان الفتور هو سيد الموقف ،كان الوقت ظهرا ،احضرت مراسم الضيافة،نودي لصلاة الظهر ،توجه للمسجد،سرت خلفه ،عدنا من الصلاة ،ربما كان ينتظر ان افاتحه في مهمتي ،وانا استراتيجيتي ان لا أكلمه في شيء واتركه يفهم وهو الفهامة ،ان زيارتي زيارة اخوية واني لست متعجلا ،قضينا اليوم الاول والثاني والثالث على هذه الحالة ،نفس البرنامج ،المسجد ،الضيافة ،اسيئلة متبادلة من وقت لآخر عن بعض الامور العامة ،في نهاية اليوم الثالث ،ولما تأكد من صدق نيتي وعدم تعجلي في برنامجي،أخذ هو المبادرة وفاتحني في الموضوع الذي يعرف اني جئت من اجله ،وفاض في الحديث فيه وفي مآخذه علي واتهاماته لي ،وأبديت له حججي ومبرراتي ،مؤكدا له اني ما أخذت ذلك الموقف وكذلك كل المواقف السابقة له ولن أخذ تلك الاحقة به الا من اجل شيء واحد هو مصلحة المجتمع ،واني مستعد لتحمل كل شيء في سبيل ذلك ،ولا انفي ان قد اخطيء كما قد أصيب ،لكن النية هي هي ودخلنا جولات مارتونية من النقاش لا يقطعها الا الامور السابقة ،الصلاة ،الضيافة ،بعض النوم ،وبقينا على هذه الحالة عدة ايام بلياليها نثرنا خلالها كل شاردة وواردة من حيثيات هذا الملف ،وحصلت منه في النهاية على العديد من التنازلات حول الموضوع لم يكن من السهل تقبله لها في الظروف العادية ،وفي نهاية مقامي معه ،ودعنى مباسطا وعلامات الارتياح بادية عليه ،خلافا لما كان عليه الامر وقت مجيء ،وعرفت علاقاتي به بعد ذلك نقلة نوعية ،توجت بحرصي على ان يتم اختيار معط مولانا لاحتضان اكبر تجمع مصالحة بين العلويين والحسنيين ،بعد سنوات طويلة من الجفاء بسبب النزاع الحدودي المعروف اصطلاحا بقضية امكيني،
رحم الله العلوي ،لقد كان رجلا عظيما فعلا ،فقد كان في ان واحد رجل قبيلة ورجل دولة ،وهما المتناقضتان اللتان لا يمكن ان يجمع بينهما الا رجال من عيار خاص من امثاله هو ،ويندر تعددهم في جيل واحد ،