الأستاذ السيد أحمدو الطلبةصباحيات ذي المجازصباحيات ذي المجاز - صباحيات الخميس

مرض الأوائل / ذ. السيد أحمدو الطلبة

في صدر القرن الثاني الهجري تَنَبَّأَ شاعرُ النسيب والرقّة ابن الدمينة بوشْك انقراض عصر الحب والمحبين:

وقد مات قبلي أوّلُ الحب فانقضى / فإن متُّ أضحى الحبُّ قد مات آخرُهْ .

 

ولم يَعِدْ بخليفة يُقيمُه مقامَه في هذا الشأن، أما نُصَيب المعاصر له فقد وعَد بأن يَعهَد بالأمر إلى خليفة يحمل بعده لواءه ويحفظ عهوده ويجدد رسومه:

أهيم بدعْدٍ ما حَيِيتُ، وإن أمُتْ / أُوَكِّلْ بدعدٍ مَن يَهيمُ بها بعدي .

 

ولقد صَدَقَتْ _ وإن بعدَ حين من الدهر _ هذه التنبؤات المتشائمة، ففي الشعر المعاصر اختفت _أوكادت_ شكوى كانت متَفَشِّية في شعر العصور الأولى، شكوى يتحدث أصحابها عن مرض ليس من أمراض الأبدان المألوفة، له وَصَفات شتى وشهداءُ كُثْر ..

من أقدم الوصفات العلاجية لذلك المرض وصفة امرئ القيس التي اقترح لنفسه:

وإن شفائي عبرة إن سفحتها ….. وهل عند رسم دارس من معول ؟

 

وتلك الوصفة التي ذكر أحد شعراء نجد أن بعض الخلِيّين من الحب اقترحوها عليه فلم تُجْدِه شيئا:

وقد زعموا أن المحب إذا دنا ….. يمل، وأن النأي يشفي من الصد .

بكل تداوينا، فلم يشف ما بنا ….. على أن قرب الدار خير من البعد .

على أن قرب الدار ليس بنافع ….. إذا كان من تهواه ليس بذي ود .

 

ومنها وصفة البحتري في إحدى رقائقه:

ألَمَّتْ، وهل إلمامها لكَ نافعُ ؟

وزارت خيالا، والعيون هواجعُ

 

بنفسيَ من تنأى، ويدنو خيالها

ويبذل عنها طيفُها، وتمانعُ !

 

وإن شفاء النفس لو تعلمينه

حبيب مُواتٍ، أو شبابٌ مراجع .

 

 

على أنَّ مِن مرضاهم من أيِس من دواء علَّته وشفاء سَقَمه، واستبعد وجود دواء ناجع كابن الدمينة الذي غزا السقَمُ قلبه وحاصرته جوارفُ أَتِيّه من كل وجهة وصوب:

وما ذا الذي يشفي من الحب، بعدما

تَشَرَّبَه بطنُ الفؤاد وظاهرُه ؟

 

ومنهم من شخّص علَّته وعرف مرضه أو قارب ذلك، غير أنه لم يُتعِب نفسَه في طلب الدواء، بل استسلم للمقدور:

هجرتكِ حتى قيل: لا يعرف الهوى

وزرتكِ حتى قيل: ليس له صبْرُ !

 

صدقتِ، أنا الصبُّ المصابُ الذي به

تباريحُ حبٍّ خامر القلبَ أو سحْرُ .

 

ومنهم من رفع علَّته إلى الراقين والأطباء، فاعترفوا بالعجز عن دوائه بعدما استنفدوا جهودَهم واستفرغوا حيَلَهم:

جعلتُ لعَرّاف اليمامة حكمه

وعرّاف نجد إن هما شفياني

 

فما تركا من سلوة يعلمانها

ولا رقية إلا بها رقياني

 

فقالا شفاك الله، والله ما لنا

بما ضمنت منك الضلوع يدان !

 

وما وصل إليه الطبيب والعَرّاف من الاعتراف بالعجز بعد جهد المحاولات مصداق قول المتنبي:

عزيزُ أُسى من داؤه الحَدَق النُّجْلُ

عَياءٌ به مات المحبون من قبلُ !

 

وقد قارن شوقي هذا المرض بغيره من أمراض الأبدان مقارنة بالغة الحسن والرقة:

أُساةُ جسمكَ شتى حين تطلبهم

فمَن لروحكَ بالنُّطْس المداوينا ؟

 

وفي شعر الشناقطة بعض الوصفات لهذا الداء، منها وصفة ظريفة لأحد كبار الشعراء الذين امتاز شعرهم بطابع خاص:

شفاءُ الضَّنَى مِن مريمٍ لثمُ مريمِ

_ومِن دونه خَرْطُ القتاد_ على الفمِ .

 

تسَلَّ بها، لا تسْلُ عنها فتَعْتَلِقْ

بذكر سليمى والرباب وتندمِ .

 

كما رقّ أحدهم وأبدع ما شاء في المعنى:

يا منية النفس عافى الله مرضاكِ

نعم وعافاكِ، مرضى النفس مرضاكِ

 

لا توثري حق مرضاكِ الصغار على

كبار مرضاك، إن الكل مرضاكِ .

 

أما أهل هذا العصر فهم بصحة جيدة، ومَشافي الحب فارغة لا تعجُّ بالمرتادين، ذلك لأن المرض تم استئصال أسبابه بسلاح ثورة التكنولوجيا الحديثة وتمدرس “الجميع” ..

 

سئل أحد عشاق قبيلة العُذْريين الذين اشتهروا بكونهم يقتلهم الحب عن سبب ذلك فقال: لصباحة في نسائنا وعفة في رجالنا …

 

لقد كان من أسباب هذا المرض تمنُّع المحبوب وإيصادُ أبواب لقائه وتشدّدُ حُرّاسِه، ولم يَكُن لهم من العالم الافتراضي حينئذ إلا لقاء الطيف الذي لا يتاح الحصول عليه بضغطة زرٍّ من جهاز يدَويٍّ، بل كانوا يشكون من هجران الطيف كذلك:

تناءتْ دارُ عَلْوةَ بعد قرب

فهل ركبٌ يبَلّغها السلاما

 

وجَدّدَ طيفُها عَتْبا علينا

فما يعتادنا إلا لِماما .

 

فكثُر في العشاق بلاءُ الحِرمان الذي هو أكبر دواعي ذلك المرض:

وإني لأرضى من بثينة بالذي

لو ابصره الواشي لقَرَّتْ بلابلُهْ

 

بلا، وبلا أستطيع، وبالمنى

وبالوعد، حتى يسأم الوعدَ آملُهْ

 

وبالنظرة العَجْلى، وبالحول تنقضي

أواخره لا نلتقي وأوائلُه .

 

مَرْضَى الحبِّ اليوم أندرُ من أعصم الغربان، لم يبق منهم إلا قليل يُعَدُّون على أطراف البنان، تأسَّفَ على انقراضهم أحد العلماء والشعراء المعاصرين:

حبُّ الحسانِ بأرضي ….. أخنَتْ عليه السنينُ

لم يبقَ فيها محبٌّ ….. إلا أنا والأمينُ .

 

والحمد لله على العافية والحمد لله على كل حال …

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق