رجل أعجبني حتى النخاع / د. الشيخ الطلبة
كثيرة هي الأسباب التي تجعلني أتوسل إلى الذاكرة لتعود بي للوراء لعلي أعيش بعض أمجاد ماض رأيت فيه بأم عيني قامة شامخة ورمزا فذا من رموز العلم والعمل.
عرفته شيخا وقورا مهيبا، عالما متواضعا، يحمل هم العامة ويسعى في مصالحهم، بكل ما أوتي من حكمة وبصيرة وأناة، كنت أحضر جلساته العلمية الممتعة حقا، خاصة حين يفسر كتاب الله فيصول ويجول بين تلك المعاني الربانية السامية بأسلوب تربوي حصيف.
كان يخدم الناس نهارا، ويدرسهم ليلا، ويشحذ همم الشباب ويحيي في نفوسهم الأمل والإيمـــــان والبـــر
إنه العلامة الجليل: سيدي محمد ول آبه رحمه الله تعالى، إنه الرجل الذي لم تكن أقواله بمنأى عن أفعاله، وكانت أيام حياته عبقة بالتضحيات الجسام.
إنه الرجل الوقور ذو الهيئة المهيبة والسمت الخلوق، والتواضع الجم، يمازح الضعيف، ويمسح على رأس الصبي، ويمسك يد المسكين، ويصغي إلى العامي، ويفترش الرمل، ويمشي حاسر الرأس في يوم شمسه ملتهبة يتصبب جبينه عرقا سعيا لمصالح العباد والبلاد.
لا يعرف للأبهة طريقا ولا يخدمه الناس، ويمشي منفردا، لا وجود لكرامات وخوارق في حياته، سوى أنه ملك قلوب الناس بعلمه وعمله وتواضعه.
كنت أراه يمشي في الهجير الشديد بين البيوت يتفقد أحوال الناس لا يمنعه من ذلك ضعف ولا عياء ولا تقدم في السن، ولقد دام على ذلك حتى أيامه الأخيرة في هذه الدنيا.
للرجل درسان أحدهما في محظرته والآخر في بيته، ومكتبتان إحداهما في بيته والأخرى في ذاكرتــــه يحفظها عن ظهر قلب، والعجيب أن حياته كلها عمل وعلم، وهذا ما يمتاز به، فنهاره لا ينقضي دون إنجاز عمل عام، وليله لا ينقضي دون علم يبثه في قلوب الرجال.
لم يكن العلامة سيدي محمد رحمه الله شيخا ذا أبهة وملك، ولم يكن لديه حراس، ولا يحجب عنه أحد، ولم يعرف مجلسه الكريم أي مراسيم، فكان يزور الناس كما يزورونه، ويصل الرحم لا يشغله عنه شاغل، وكان قوالا لكلمة الحق لا تأخذه في الله لومة لائم.
صار الشيخ سيدي محمد مضربا للمثل في رعاية الناس والاعتناء بهم حتى أصبح الجميع ينظر إليه نظر الولد لوالده، كان أبا للكل، فحُبب إلى قلوب الناس، وصارت الألسن تلهث بالثناء الحسن عليه.
كان الرجل الوحيد الذي يطيعه الجميع ولا يختلف حوله اثنان، وينفذ الكل أوامره دون تردد، ولن تجد أحدا ممن يعرفه إلا ويكن له حبا وقر في قلبه.
كنتُ أحضر جلسة الدرس التي يقيمها العلامة في بيته، وكانت تشدني عباراته الدقيقة، والأمثلة التي يضربها أثناء الدرس، وربما جنح- على طريقته التربوية- إلى اللهجة العامية حتى يتساوى الناس في المعنى الذي يرمي إليه، ومن ذلك قولته الشهيرة حينما سئل هل يشترط في النية التلفظ بها؟ قال: (حدْ اكْبظْ مغرج ماهُ امعدلْ شرْشمْ كافيهْ ذاكْ امن النية) وفي هذا المعنى رؤية مقاصدية عميقة توحي بأن الرجل لم يكن مجرد فقيه أصولي بل كان مقاصديا بامتياز.
كان الشيخ سيدي محمد يباسط تلاميذه ويمازحهم، ومن ذلك أن أحد تلاميذه كان يعاني من الوسوسة في الصلاة وكان يعيد تكبيرة الإحرام مرارا، فقال له الشيخ: “أنت فقيه ولا يلاحظ عليك إلا أنك تحتاج لمن ينوب عنك في تكبيرة الإحرام”.
وتعتبر شخصية العلامة سيدي محمد ول آبه شخصية متكاملة الصفات متعددة الخصائص، فلك أن تجد فيه العالم النحرير، والرجل الاجتماعي المفكر، و قبل هذا وذاك القدوة الرمز الذي لا يخلو منه قلب.
وقد كان سمته مثالا تأسى الناس به، وزرع أُلفة ومحبة في نفوس الناس، واعتناء بالرحم، وكان يتعهد الضعفاء بالإحسان، وصدقة السر، والكلمة الطيبة، ولا يترك بابا من أبواب الخير إلا طرقه ولا مسلكا طيبا إلا سلكه.
تسارعت الأيام ومضى الزمن حثيثا ليرحل الشيخ سيدي محمد إلى أعلى عليين مخلفا وراءه ذرية ضعفاء أحوج ما يكونون إليه في مثل هذه الأيام العصيبة؛ إنهم أبناء الأمة وبناتها شبابها وشيبها.
رحمك الله يا فخر الآباء والأبناء
رحمك الله يا قدوة الصالحين
لن ننساك ـ لن ننساك.
سقى الله قبرا ضمك من وابل غيث الرحمات
فهل تلد لنا الحرائر مثلك ………..؟؟؟
فهل تلد لنا الحرائر مثلك ………..؟؟؟
فهل تلد لنا الحرائر مثلك ………..؟؟؟
الشيخ بن الطلبه
طالب باحث/ فاس /المغرب
chtoulba@maktoob.com